الصفحة الاخيرة: أبو نوأس … شارع الشعراء والسمك المسكوف يحاول استعادة مجده

 
 


شارع يقع على الضفة الشرقية جهة الرصافة من نهر دجلة ويسير معها يمتد بين جسر الجمهورية (جسر الملكة عالية سابقا) في منطقة الباب الشرقي والجسر المعلق في منطقة الكرادة الشرقية. وسمي هذا الشارع على اسم الشاعر أبو نؤاس الذي توفي في بغداد سنة 198هـ.
يضم هذا الشارع على مدى تاريخ بغداد الحديث ومنذ القرن الماضي احدى أهم مناطق السهر والسمر حيث تمتد على طول الشارع المقاهي على شاطئ نهر دجلة, هذه المقاهي المتباينة بين البسيطة والراقية والتي يجمعها شيء واحد هو تقديمها وجبة العشاء التقليدية من السمك المشوي (المسكوف) على الطريقة العراقية, مع وجبات أخرى تقليدية وشهية أخرى مثل التكه والكباب والباجه مع الشاي العراقي السنكين (الثقيل الغامق).



أول ما يلفت النظر في الشارع هو إسمه الغريب في عاصمة تعنى كثيراً بالمسميات الأعتبارية لشوارعها، تاريخاً واحداثاً وشخصيات، كشارع النضال أو الامام موسى الكاظم أو الخلفاء أو 14 تموز أو المتنبي أو السعدون.. في حين يقف هذا الشارع بينها إستثناء، لأنه يحمل إسم الشاعر العباسي، الحسن بن هانئ، نديم هارون الرشيد، وصاحب الباع الطويل كما يقول مؤرخو الأدب في إنجاب قصائد المجون والغزل بالغلمان، والشاعر الذي ماتغنى بالسيف ولكنه خير من وصف الكؤوس المترعة، والذي ماعرف الطريق الى بيوت الله ولكنه كان خبيراً بدروب الحان والزق والخمرة!!
الموقع على دجلة بحد ذاته هو أهم ميزات المكان، ومع ذلك يمكن أن نتلمس طقساً اخر، فأبو نواس- الأصلي- في عرف الناس، أي الواقع فوق النهر مباشرة، والذي يغفو الآن تحت غابة من الاشجار تفتقد إليها الجهة البعيدة عن دجلة، كان لايستقبل رواده إلا ليلاً، وهذه خاصية ينفرد بها، فالاطعمة والمشروبات وحركة الحياة لاتبدأ إلا قبيل غروب الشمس فيما يتواصل السهر إلى الساعة الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل، ولذلك إرتبط أبو نواس بالليل، أما في أوقات النهار الأخرى فأنه مهجور تماماً إلا من بضعة عمال مشغولين بتنظيفه وترتيب مقاعده استعداداً لمساء جديد. الشارع من مواليد 1934، تم شقه بعد شارع الرشيد بثمانية عشر عاماً ليمثل امتدادا واحداً معه فيسير مع الضفة الشرقية لنهر دجلة الخالد ليبدأ من حيث ينتهي شارع الرشيد وبالتحديد من جسر الجمهورية لينتهي في الجسر المعلق. حدائق وكازينوهات ومحال لشي السمك العلامة المسجلة للشارع وهو السمك الذي اشتهر به ولا يكاد يُعرف، اي شارع في بغداد أو في العراق إلا ابو نواس وسمكه المسكوف، حتى ان اي سائح زار العراق، وامضى سهرات أنس في هذا الشارع لا بد لذهنه ان يسترجع تلك الامسية في مخيلته على رائحة السمك. اما المعالم الاخرى التي تميز وتكاد تكون لصيقة بالشارع فأهمها نصب شهريار وشهرزاد وما يختزنانه من حكايات التاريخ القديم واخبار السلاطين والجن والملوك والانسان والحيوان والسرقة واللصوص والاطباء ورجال الدين والدنيا، وهو صمم على يد الفنان محمد غني حكمت في العام 1972من البرونز، ثم يلوح لك تمثال ابو نواس بكأسه الشهير ولهاً وحباً بحياة تكاد تكون مخلدة لعاشق حالم حيث ابدع في تصميمه الفنان اسماعيل فتاح الترك في العام 1972.
 حتى أوائل السبعينات ولعقود خلت قبلها، كان أبو نواس هو المنتجع الليلي الوحيد تقريباً على ضفة دجلة قبل أن تنهض أماكن أخرى في منطقة المسبح أو الأعظمية والفحامة التي لم تستطع أن تسرق أفضلية هذا الشارع.
ولكن مأساة الشارع الحقيقية أنه يرقد في الجهة المقابلة للقصر الجمهوري (مقر حكم النظام السابق) ولذلك فأن نهايته أو موت الشارع الحقيقي كان على يد القصر الجمهوري، فقد بات ممنوعاً على المواطن أو على رواد الشارع أن (يتنفسوا) أو ينظروا الى الجهة المقابلة، وهكذا فضل المواطن الهجرة الى مكان آخر تجنباً لمطاردات رجال الأمن وعيونهم.. ومن المؤسف أن مأساة الشارع تواصلت حتى بعد سقوط النظام حيث أن الاسلاك الشائكة والأعمدة الكونكريتية باتت هي السمة العامة للشارع.
لكن امانة بغداد قامت مجدداً بالاعتناء به والباسه ثوبا جديدا مبهجا ليعود، وتم مد شبكة الري والسقي والانارة، وانجاز لوحة الى جانب ابي نواس دونت فيها اشعاره في التضرع يا سائل الله فزتَ بالظفر وبالنوال الهني لا الكدر
فأرغب إلى الله لا إلى بشر   منتقلٍ في البلى وفي الغبر
بذلك ألبس ابو نواس طابعا يقترب ربما من الطابع الديني، واعيدت يد شهرزاد ليستريح شهريار مجدداً على اريكته منصتا الى حكاياتها التي لا تنتهي، وتم بناء قاعدة رخامية تجملها الالوان، وانشئت ملاعب شبابية للفرق الشعبية فكانت ثمار هذه الجهود متنزهاً كبيراً. على طول الشارع تجد فرقاً امنية تحرس المكان والمواطنين حتى ساعات الليل المتأخرة التي يحاول ان يطيلها مرتادوه مجددا، ليعود ليل ابو نواس الساحر الى ما كان عليه، وفود من الشابات وطلبة الجامعات واشجار وعشاق وهمسات خجلى بين الاحبة تتخاتل في ظل الاشجار، واطفال تتقافز براءتهم بأراجيح الحدائق والمقهى البغدادي يتوسط الحدث. كل ذلك تجده في شارع ابي نواس من دون ان تتناسى رائحة السمك المسكوف التي يعود عطرها يملأ المكان حيث يشكل المسكوف أهم علامة وبصمة تحدد هوية هذا الشارع العريق.

 

 
 



 صفحة للطباعة صفحة للطباعة

 أرسل هذا الخبر لصديق أرسل هذا الخبر لصديق

 
 

 
 

· البحث في اخبار الصفحة الاخيرة
· البحث في اخبار جميع الصفحات


أكثر خبر قراءة في الصفحة الاخيرة:
وفاة الفنان المصري غريب محمود وهو على خشبة المسرح