مقالات وتقارير: الحريري وفن تجاهل الواقع اللبناني

 
 


نصري الصايغ
كانت ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري الثامنة، مناسبة لكلام سياسي. لم يكن متوقعاً أن يخرج الخطاب عن سياق الاحتدام والمنازلة. كان مرغوباً ومطلوباً إحداث مفاجأة، ولو عادية، تخرق السياق الذي قاد البلاد إلى الفراغ وانعدام الأفق والوقوف الدائم على الحافة. كان مطلوباً، وفاء للبنان أولاً، أن تتضمن المناسبة حلماً واحداً قابلاً للتحقق، غير أن هذا لم يحصل.



كأن المناسبة، على راهنية بقائها كرمز ومحرك، ابتعدت عن الواقع كثيراً. ونأت عن تراث لبنان التوافقي، ولو كان التوافق حاضناً للكذب الضروري والتلفيق السياسي، الذي هو مرهم الحالة الطائفية المستفحلة.
كان مرغوباً أن تحمل كلمة سعد الحريري مبادرة سياسية، تضع حداً للانهيار، تعلن وقف إطلاق النار السياسي، الذي يندلع عنفاً متنقلاً، بين "الغيتوات" المعبأة بالأحقاد المذهبية الفادحة. كان مطلوبا أن تتضمن كلمته أرضية يقف عليها اللبنانيون، حفاظاً على ما تبقى من السلم الأهلي الهش. ورسم خريطة طريق السلامة الوطنية، وخفض منسوب التوتر السياسي الذي ما انفك يتصاعد حتى بلغ "السيل الزبى" في أكثر من محطة ومكان.
حضر كلام الحريري عن لبنان، بصيغته المأمولة. بصيغته كحلم من أحلام اللبنانيين التوّاقين، بعد سنوات الظلمات، إلى بلد آمن، مستقر، يكفل لأجيال لبنان البقاء فيه، ويمنع عنهم اللعنة التي رافقتهم منذ عقود. حضر كلام جميل عن لبنان الدولة المدنية والدستور والقوانين والسيادة والاستقلال والديموقراطية والعدالة واتفاق الطائف والحياد الإيجابي و.. وكل ما يمت إلى الدولة الحديثة بصلة البداهة. خريطة طريق، لا نجد في لبنان من هو مؤهل أو راغب في السير فيها، وتحديداً تيار "المستقبل"، لأنه، كسواه من القوى الطائفية والمذهبية، مرهون ومرتهن إلى انتماءاته العابرة للحدود، وغير العابرة للطوائف والمحافظات. فالطائفية الحاضنة للقوى اللبنانية السائدة، ضد منطق الدولة.
غابت المبادرة، وحضر الحلم... إنما هو حلم غير قابل للتطبيق، ولا ينسجم مع شعار الذكرى الذي أكد أن المرحلة المقبلة، هي لتحقيق الأحلام.
عُرِف عن لبنان، كيف يئد أحلام بنيه ومفكريه ومثقفيه والمستنيرين فيه. وعرف عنه كذلك، كيف يوقظ الأموات ويطالبهم بأن يحكمونا.
خريطة بناء الدولة في لبنان لا يخطو عليها تيار سني، بحاضنة سنية، لبنانية وعربية. المذهبية تتعارض مع المدنية. ولم يعرف علم السياسة بعد ما أطلق في المناسبة، عن "دولة مدنية" بإدارة سياسية طائفية ـ مذهبية. لا وجود أبداً لمعادلة دولة مدنية مذهبية. إما مدنية أو مذهبية، الجمع بينهما محال. ما يقال على السنية، يتلى على الشيعية السياسية والمارونية السياسية وعلى كل هيئة أو حزب، قاعدته من لون طائفي واحد. هذه قوى نافية للدولة.
حلم الدولة في لبنان، لا تحققه طائفة أو تيار تابع لها أو نابع منها. الطائفية نقيض الدولة. الطائفية ضد الوطن ونقيض المدنية. الطائفية دولة مكتفية بنصاب شعبي لصيق بها، واعتراف قانوني، وسلطة أمر واقع طاغية، وحصص مبرمة لا /مسَّ/ بقدسية احتكارها، وقدرة على ممارسة حق النقض. تيار "المستقبل" ليس مدنياً ولا علمانياً ولا عابراً للطوائف ليبني دولة، تلتف حول مشروعه قوى مدنية سياسية لنصرته وتحقيقه. الشيعة الملتحقون به، ضيوف غرباء. المسيحيون الملتفون حوله، من إرث الرئيس رفيق الحريري. هؤلاء، هم شيعة السنة، ومسيحيو السنة، كما كان يقال عن سنة الموارنة في زمن المارونية السياسية السالف.
مشروع بناء الدولة فات أوانه من زمان... وهو، في هذه اللحظة، قبل أوانه بأزمنة. والمطلوب، بالمعنى الايجابي والموضوعي، تأهيل لبنان بالفهم المتبادل لقواه.
من لا يعرف لبنان بعد، عليه أن يدرسه كما هو في الوقت الحاضر. هذا هو لبنان. مقاومة مسلحة محتضنة شيعياً، ومؤيدة من معسكر إقليمي في معظمه شيعي. يقابلها تيار سني يرى في السلاح خطراً على لبنان وتهديداً للسلم الأهلي، ومانعاً لنشوء الدولة.
فلو افترضنا أن نية الخطاب السياسية سليمة، فكيف يمكن بناء سلطة مؤقتة في دولة متداعية، بين أيدي أبنائها وبيدي أبنائها؟ كيف يمكن بناء أي شيء إيجابي عبر العزل المتبادل والنفي المعمّم؟ كيف يمكن أن نتوقع محطة مؤقتة لاستراحة المنازلة، لا يشترك فيها تيار "المستقبل" ومن معه، و"حزب الله" ومن يجاريه ويحالفه؟
"حزب الله"، ليس شيعياً فقط. لو كان كذلك، لهان الأمر كثيراً، لكان ممكناً إرضاء الجميع بالمحاصصة. "حزب الله" مقاومة عسكرية مسلحة ضد إسرائيل، سلاحه لا عمر له. يتوالد ويتجدد ويتكثف ويتنوع ويتفوق وفق مقتضيات المواجهة المتوقعة بين اسرائيل ولبنان. النظر إلى "حزب الله"، على أنه سلاح شيعي يبرر للسنة أن يتسلحوا خوفاً منه، ليست نظرة موضوعية وسليمة، وإن كان التحشيد العسكري السني انطلق من هذا التبرير.
ان حرب الحريري على سلاح "حزب الله"، ألغى الكلام الجميل عن الدولة. وفي الأساس، لم يحدث بعد في لبنان أن واجه اللبنانيون السؤال: كيف نبني دولة ومقاومة معاً. كيف نحافظ على دولة ومقاومة معاً؟ من خلال الحاجة القصوى والحيوية للدولة والحاجة الاستراتيجية للمقاومة؟ دائماً، كانت توضع الدولة في مواجهة المقاومة، والمقاومة في مواجهة سيادة الدولة. وهذا غير منطقي وغير واقعي. نعم، بالإمكان صياغة معادلة تاريخية: "دولة تحمي المقاومة ومقاومة تحمي الدولة وتدافع عن سيادتها". مسألة الامرة تفصيل، إذا صفت النيات. لكن المسألة ليست في هذا المستوى. ففريق لبناني، قديم ومستحدث، هو ضد المقاومة. لأنه لا يرى في إسرائيل خطراً. أليس لذلك غابت إسرائيل عن خطاب الحريري. فيما احتشدت فيه فقرات ضد النظام السوري. حقه ان يكون ضد هذا النظام، ولكن غياب اسرائيل عن نصه، عيب كبير.
يسهل على المرء أن يكون في لبنان، ضداً. خصومه أعداء. وطن من خنادق. خنادق من طوائف. قذائف من مذاهب. قيادات بعين واحدة... وطن، من أضغاث الأحلام. وطن قتلته الطوائف والمذاهب، وأقامت على قبره، حراساً.
يصعب على المرء أن يكون لبنانياً... لكن ذلك، لن يكون مستحيلاً، ففي المجتمع المدني اللامذهبي، حراك حقيقي، له خريطة طريق، وهناك من يسير عليها ويسلك معارجها، بثبات.
هذا الوطن، حلم يتحقق بإرادة لبنانيين غير طائفيين.

 

 
 



 صفحة للطباعة صفحة للطباعة

 أرسل هذا الخبر لصديق أرسل هذا الخبر لصديق

 
 

 
 

· البحث في اخبار مقالات وتقارير
· البحث في اخبار جميع الصفحات


أكثر خبر قراءة في مقالات وتقارير:
أزمة لبنان والرهانات الكبرى في الشرق الأوسط