ثقافية: الكتب لمقاومة دكتاتورية التسلية

 
 


أبو بكر العيادي
رواية "فهرنهايت451" -التي حوّلها المخرج الفرنسي فرنسوا تروفو إلى السينما عام 1966 - تندرج ضمن تيار الديسكوبيا discopie، ذلك الذي ينطلق من الواقع لاستشراف غد مظلم في العادة،ونظام شموليّ يصادر الحريات، ومستقبل ينذر بكوارث ومحن محتملة الوقوع، ولكنها، خلافا لرواية جورج أورويل "1984" ، تصور مجتمعا قانعا بما هو فيه، سعيدا بما يلقاه في يومه، وإن كانت تلك السعادة موهومة، لأنها قائمة على التخدير الممنهج "منوعات تلفزيونية ساذجة، برامج "رياليتي شو" تافهة، مناظرات سخيفة على الهواء…"



ومبنية على الانغماس في الاستهلاك والإقبال على مستحدثات تقود المجتمع بأسره إلى بلادة الذهن والجهالة.ذلك أن حكومة هذا البلد الذي لا يرد ذكر لاسمه، تشنّ حربا شعواء على الثقافة عامة والكتب خاصة، حيث تتولى فرق رجال المطافئ حرقها، وملاحقة كل من يقرؤها أو يمتلك نسخة منها، تنفيذا لأوامر عليا تحرّم تداولها، باعتبارها تمنع المجتمع من بلوغ السعادة.فالكتب تزال بطريقتين حسبما خططت له تلك الحكومة: إما بالدرجة الحرارية فهرنهايت 451 " ما يعادل 232,7 °C " التي يحترق فيها الورق من تلقاء نفسه حال تعرضه للهواء، أو بضمور الاهتمام بها، قبل العزوف عنها تماما، ليحل محلها الاستهلاك المفرط والفردانية والجهل، عبر إشاعة برامج التسلية ووسائل الترفيه وإغراق المجتمع بسيل من المعلومات لا يملك المرء القدرة على فرز غثها من سمينها ولا استعمالها في ما يفيد.تبدأ الحكاية بالتقاء غي مونتاغ رجل الإطفاء بكلاريس، فتاة يميل بها طبعها إلى التمرد والحرية تفتح بصيرته على عالم الكتب، فإذا هو يتساءل عن حياته ودوره فيها وعن وظيفته التي تسوق به إلى نفي وسائل المعرفة، فيخضع للغواية ويقبل على الثمار المحرَّمة، وعوض أن يحرق الكتب، يسحبها خلسة من المحرقة، وبذلك يعلن عصيانه على هذا النظام المستبد، إلى أن تشي به زوجته ميلدريد، السادرة في مستحدثات النظام ودعايته. وبعد إيقافه، يفلت من الأسر ويفر خارج المدينة، ويظل مطاردا كالمجرم، حتى يتلقاه رحّالة مثقفون، رجال ونساء يعيشون على هامش النظام، ويقاومونه على طريقتهم، بحفظ الكتب عن ظهر قلب لصونها من النسيان.يفسر برادبوري - الكاتب العصامي الذي لا يحمل غير شهادة الثانوية العامة، والذي قضى جانبا من حياته يبيع الصحف لكسب قوته - بأن الجاهل عادة ما يحسد المتعلم، ومن ثَمّ يصبح فعل القراءة عملا خارجا عن تقاليد المجتمع، وتصبح الكتب عامل إزعاج لراحة بال الجماهير العريضة التي تنعم في جهالتها. ومن ثَمّ جاءت كراهية الكتب، والسعي الحثيث لتيسير جاهزية العقول كي تقبل راضية الاستنامة إلى الكسل اللذيذ، بعيدا عن الثقافة ووجع الدماغ.يقول بيتي ضابط فرق الإطفاء : "أغرقوهم بمعطيات غير مستفزة، غير قابلة للاشتعال. أشبعوهم وقائعَ حدّ التخمة، ولكنْ وقائع مثيرة من وجهة النظر الإعلامية. عندئذ سوف يشعرون بأنهم يفكّرون، وبأنهم يتحركون، فيما هم يراوحون مكانهم. سيشعرون عندئذ بأنهم سعداء، لأن معارف من هذا القبيل ثابتة لا تتغير. لا تنقلوهم إلى مجالات زلقة كالفلسفة وعلم الاجتماع فيصلوا الأشياء بعضها ببعض، فذلك باب نحو الكآبة. كل ما أطلبه هو التسلية".العالم الذي تصوره الرواية شبيه إلى حد بعيد بما نعيشه اليوم، حيث ينسخ الخبرُ الخبر، وتضعف قدرة المرء على التحليل الصائب، مثلما تتضاءل ذاكرته أمام زخم ما تنقله وسائل الإعلام كل حين، وبذلك يغدو الاستهلاك الخطي المتواصل، الخالي من البعد التاريخي والمستقبلي، وسيلة للقضاء على حرية الفكر. يحدث هذا عندما يؤثر المثقفون الاستقالة طلبا للسلامة. يقول برادبوري على لسان فابر أحد شخوص الرواية : "رأيت إلى أين كنّا نمضي، من زمن بعيد، ولم أقل شيئا. أنا واحد من أولئك الأبرياء الذين كان يمكن أن يرفعوا أصواتهم حين لم يكن ثمة أحد يريد سماع المذنبين. "إذا كان عمل دفيد جيري قد حافظ على سردية الرواية، فإنه لم يعالجها مسرحيا بوصفها خيالا علميا، لأن أحداثها في عمومها صارت راهنا باديا للعيان، بل وضع تيماتها موضع مساءلة، لتبيّن السبيل إلى الصمود في وجه دكتاتورية التسلية، تلك التي تشجع على خمول الذهن وضياع الذاكرة ونبذ التفكير وغسل الأدمغة حتى يسهل احتواؤها، ورافق تنامي الوعي لدى البطل مونتاغ تبني فكرة المقاومة عبر ثلاث لوحات:- أولا، معالجة سينمائية، حيث يوكل السرد لصوت خارج إطار المشهد Voix off، يصور عملية حرق الكتب، وقد استعان المخرج بفرقة F، المتخصصة في الخدع السينمائية وفن الناريات، والتي سبق أن تعاونت مع مخرجين عالميين مثل خورخي لافيلّي ودفيد لينش.- ثانيا، إبراز مونتاغ وهو ينهض بالسرد ليتملك حكايته وهويته وذاكرته، فيتحول من مجرد متفرج إلى فاعل.ثالثا، معالجة لقاء البطل، بعد فراره، بالرجال- الكتب " والنساء - الكتب " في شكل كورال، يفتح الباب إثره أمام الجمهور لقراءة فصل من كتاب يختاره، أو استحضار قصيد من الذاكرة على رؤوس الملأ.وكان ضيف العرض الأول ستيفان هيسل صاحب "استنكروا !" الكتيّب الذي لقي رواجا عالميا، حيث ألقى قصائد لشاعر العصر الوسيط فرنسوا فييون "F. Villon 1463 - 1431"، تلته الروائية ليدي سلفير التي قرأت مقطعا من "بستاريو" رواية الكاتب الأرجنتيني الراحل خوليو كورتسار. هي لحظات تتجاوز التمثيل وتُدخِل المتفرج في بعد آخر وزمن آخر وواقع آخر. فالغاية، كما يقول جيري، هي إعلاء فعل القراءة للصمود ضد استشراء الرداءة والتجهيل المتعمّد.

 

 
 



 صفحة للطباعة صفحة للطباعة

 أرسل هذا الخبر لصديق أرسل هذا الخبر لصديق

 
 

 
 

· البحث في اخبار ثقافية
· البحث في اخبار جميع الصفحات


أكثر خبر قراءة في ثقافية:
كيف غزا حاتم علي السينما المصرية؟