مقالات وتقارير: الأمعاء الخاوية وصاعق الانفجار الفلسطيني

 
 


طلال عوكل
قضية الأسرى الفلسطينيين المضربين عن الطعام، تتقدم هذه الأيام مختلف الملفات والقضايا التي تتصدر أولويات اهتمام القيادات الفلسطينية، حتى أنها تغطي على ملف المصالحة الذي يكثر الحديث عنه وتكثر بشأنه التصريحات واللقاءات، دونما أمل قريب في إمكانية تحركها إلى الأمام على نحو يؤدي إلى البدء بمرحلة إنهاء الانقسام الفلسطيني، الذي طال أمده وتنوعت تداعياته الخطرة على النظام السياسي وعلى القضية الفلسطينية.



عدد قليل من الأسرى المضربين عن الطعام على نحو أسطوري، يستطيعون إثارة كل هذا الاهتمام الذي تجاوز الشأن الإسرائيلي والشأن الفلسطيني إلى الشأن العربي والدولي، وإلى أن يضفي شيئاً من الحيوية المفاجئة وغير المعهودة على برودة الأمين العام للأمم المتحدة، الذي عبر عن قلقه العميق إزاء الانتهاكات الإسرائيلية في حق الأسرى الفلسطينيين.
فلقد تجاوز سامر العيساوي كل تجارب الأسرى في الإضراب، وتجاوز أيضاً كل تقديرات الأطباء، حيث دخل إضراب العشرين يوماً بعد المائتين، فيما يواصل زميله أيمن شراونة إضرابه لليوم الثاني والخمسين بعد المائة، أما المتضامنون معهم؛ الأسيران جعفر عز الدين وطارق قعدان، فقد ناهز إضرابهما التسعين يوماً. لقد فعلها قبل هؤلاء المهاتما غاندي ونجح، وفعلها أيضاً الشيخ خضر عدنان وعدد من زملائه من بينهم الأسيرة هناء شلبي، ونجحوا أيضاً في أن يفرضوا على السجان الإسرائيلي الإفراج عنهم، وطالما أنهم يقبضون على الحق فإن سامر وزملاءه واثقون من أنهم سيحققون الفوز في صراع الإرادات مع سلطات الاحتلال.
في الواقع فإن السلطات الإسرائيلية خرقت الاتفاق الذي أبرمته مع حركة حماس بوساطة مصرية، في الثامن عشر من أكتوبر الماضي، وأدت إلى الإفراج عن ألف وسبعة وعشرين أسيراً فلسطينياً، مقابل الإفراج عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، ذلك أنها كعادتها أعادت اعتقال العيساوي وشراونة بإدعاء مخالفتهما شروط الإفراج عنهما، ثم أودعتهما الاعتقال الإداري دون توجيه أية اتهامات، ودون محاكمتهما.
غير أن أسباب وذرائع الإضراب تتجاوز مسألة الاعتقال التعسفي، إلى مقاومة السياسة الإسرائيلية في التعامل مع الأسرى الفلسطينيين، الذين يخضعون للقانون العسكري الإسرائيلي بما يخالف اتفاقية جنيف الرابعة.
تعتبر السلطات الاحتلالية أن الأسرى من الضفة الغربية جنائيون أمنيون، وترفض التعامل معهم كأسرى حرب، ذلك أنها تتعامل مع الضفة كأرض متنازع عليها، مخالفة بذلك القرارات الدولية، فيما تتعامل مع الأسرى من قطاع غزة على أنهم مقاتلون غير شرعيين، استناداً إلى القرار الإسرائيلي في سبتمبر 2007، باعتبار قطاع غزة كياناً معادياً.
يشكل الأساس القانوني الذي تتعامل من خلاله إسرائيل مع الأسرى الفلسطينيين، القواعد التي تتبعها ضد الأسرى، وتخلق لهؤلاء قائمة طويلة من المعاناة والعذابات الدائمة التي تنتهك أبسط حقوق الإنسان، بما في ذلك حقه في الحياة، حيث دفع الأسرى ثمناً باهظاً جراء هذه الانتهاكات، إذ بلغ عدد الشهداء منهم 198 أسيراً منذ بداية الاحتلال، فضلاً عن الأمراض العضوية والنفسية التي ورّثتها السجون الإسرائيلية لعشرات آلاف الفلسطينيين ممن مروا على تلك السجون.
تبدأ قائمة أنواع المعاناة؛ من الاعتقال بالشبهة، أو اعتقال الأقارب في حال عدم التمكن من اعتقال المشتبه فيه، إلى الاعتقال الإداري، القابل للتمديد لفترات طويلة دون محاكمة، يتخللها تحقيق تستخدم فيه إسرائيل كل أشكال التعذيب، ثم إلى العزل في زنزانات صغيرة بالكاد يتمكن فيها الأسير من التنفس، ومنع الزيارات أو الاتصال لفترات طويلة.
السلطات الإسرائيلية تتعامل مع الأسرى كفئران تجارب، وتمنع عنهم الخدمات الطبية، بما في ذلك الأسيرات اللواتي يصل عددهن إلى أربعة عشر، مما يؤدي إلى تفاقم المشاكل الصحية، فلا يعود بالإمكان الحصول على علاج لأمراض تصبح مزمنة، مثل أمراض التنفس وأمراض الظهر والقلب والجهاز الهضمي، والأمراض النسائية، والسرطان، والربو، والسكري والضغط.
ومن أشكال التعذيب أيضاً، تقنين المياه، بحجة أن الأسرى يفتحون الصنابير طيلة الليل لإلحاق ضرر اقتصادي بالاحتلال. وعدا عن المياه الملوثة، فإن إدارات السجون تقدم في الصيف مياهاً ساخنة وفي الشتاء مياهاً باردة، هذا عدا عن التفتيش العاري للأسيرات قبل أن يعرضن على المحاكم، وطول فترة نقل الأسرى من مراكزهم إلى المحاكم، والتي تستغرق أحياناً أربعة أيام، لقطع مسافة لا تحتاج لأكثر من ساعتين أو ثلاث، وذلك بحجة تجميع الأسرى لعرضهم على المحاكم.
ورغم أن عدد الأسرى الفلسطينيين الآن هو خمسة آلاف موزعين على واحد وعشرين مركزاً اعتقالياً معظمها في شمال فلسطين، إلا أن هذه القضية تنطوي على أبعاد اجتماعية وسياسية عميقة، ذلك أن أكثر من سبعمائة ألف فلسطيني مروا على مراكز الاعتقال منذ أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية بما فيها القدس، وقطاع غزة في الخامس من يونيو 1967.
الفلسطينيون المنقسمون على أنفسهم متفقون حول ملف الأسرى، بمعنى الدفاع عنهم، وتقديم الدعم لهم، والقيام بحملات تضامن واسعة انتصاراً لمطالبهم، غير أن هذا الاتفاق على العموميات لا يخفي مظاهر الانقسام، والتي تظهر على نحو واضح خلال بعض المؤتمرات التي تنعقد لدعم الأسرى، كما حصل في تونس وفي العراق العام الماضي، حيث لم ينجح الفلسطينيون في تجنب خلافاتهم حول الشرعية، وحول طبيعة التمثيل الفلسطيني في لجان المتابعة التي انبثقت عن تلك المؤتمرات.
وثمة خلاف آخر تظهر في أساليب العمل من أجل الإفراج عن الأسرى، حيث تواصل حركتا حماس والجهاد الإسلامي تهديداتهما باختطاف جنود إسرائيليين من أجل مبادلتهم بأسرى فلسطينيين، كما حصل في واقعة أسر الجندي شاليط، فيما تصر حركة فتح والسلطة على اعتماد أسلوب المقاومة الشعبية، والعمل السياسي والدبلوماسي، سبيلاً للإفراج عن الأسرى.
وفي كل الأحوال فإن إسرائيل تتبع سياسة الباب الدوار، إذ تفرج عن بعض الأسرى ثم تعتقل أعداداً أكبر وتعيد اعتقالهم، فيما تحتفظ حتى الآن بثلاثة وسبعين أسيراً مضى على اعتقالهم أكثر من عشرين عاماً، في مقدمتهم الأسير نائل البرغوثي الذي مضى على اعتقاله نحو خمسة وثلاثين عاماً.
وإذا أثبتت إسرائيل أنها لا تلتزم بأية اتفاقات بشأن الأسرى ولا غيرهم، فإن معركة الأمعاء الخاوية مفتوحة، وقد تؤدي إلى انفجار الحالة الشعبية التي تشهد احتقاناً لا سابق له.

 

 
 



 صفحة للطباعة صفحة للطباعة

 أرسل هذا الخبر لصديق أرسل هذا الخبر لصديق

 
 

 
 

· البحث في اخبار مقالات وتقارير
· البحث في اخبار جميع الصفحات


أكثر خبر قراءة في مقالات وتقارير:
أزمة لبنان والرهانات الكبرى في الشرق الأوسط