ثقافية: أثر قصائد إليوت على الشعر العربي: توظيف أم تقليد؟

 
 


أزراج عمر
في كتابه الصادر عن دار آفاق للنشر والتوزيع بالقاهرة الذي يرصد فيه تأثير إيليوت على الشعراء : صلاح عبد الصبور و بدر شاكر السياب و محمود درويش يرى الناقد الدكتور محمد شاهين أن هذا التأثير لم ينجح على نحو كامل وإن أقر بوجوده. وهنا نتساءل إلى أي حد يظهر تأثير الشاعر إيليوت في إنتاج هؤلاء الشعراء الثلاثة ولماذا لم ينجح؟ عبد الصبور ومحاكاة إيليوتفي الفصل المخصص لرصد مدى تأثر الشاعر المصري صلاح عبد الصبور بإيليوت يستشهد الدكتور محمد شاهين بملاحظات الدارس والناقد المصري، الدكتور عز الدين إسماعيل، بخصوص نوعية هذا التأثر، ولكن الدكتور شاهين ينتقد الدكتور عز الدين إسماعيل لأنه "لم يحدد المصدر الذي استقى منه عبد الصبور".



ولكي يتجاوز انعدام التحديد عند الدكتور عز الدين إسماعيل نجد الدكتور شاهين يسجل بأن قصيدة "لحن" التي تضمنتها مجموعة عبد الصبور الواردة في مجموعته "الناس في بلادي - 1957" هي "إيليوتية في مظهرها لا في مخبرها"مما يعني أن هذا التأثر هو شكلي وليس نقلا حرفيا أو محاكاة كلية في الشكل أو في المضمون أو في كليهما معا.وبحركة سريعة يخلص الدكتور محمد شاهين إلى القول بأن مصدر قصيدة الصبور المذكورة سابقا يعود إلى قصائد إيليوت التالية : "صورة سيدة" و"أغنية العاشق ألفرد بروفك" و"الرجال الجوف".بعد هذا التحديد للمصدر المثلث الأبعاد ينطلق الدكتور شاهين في إجراء تحليل تطبيقي عن طريق عقد المقارنة بين قصيدة الصبور وبين قصائد إيليوت ليدعم أطروحته بالحجة. مما لا شك فيه أن الشاعر الصبور لم يتأثر فقط بإيليوت في قصيدة واحدة، بل إن علاقته بإيليوت تتطور بتطور تجربته الشعرية من حيث التقنية والموضوعات.إننا نجده في مسرحياته مثل "مأساة الحلاج" و"الأميرة تنتظر" و"ليلى والمجنون" و"مسافر الليل" وفي مجموعاته الشعرية "أقول لكم"، و"أحلام الفارس القديم"، وأيضا "تأملات في زمن جريح" يستعمل تقنيات إيليوت وأحيانا أسلوبه في بناء معمار القصيدة وتتمثل هذه التقنية في "نظرية المعادل الموضوعي" التي تعتبر ركيزة أساسية في تراث إيليوت الشعري والنقدي وتعني هذه النظرية "إيجاد مجموعة من الأشياء، والمواقف، وشبكة من الأحداث التي ستكون بمثابة صيغة بديلة لتلك العاطفة المعنية.حيث أن تلك الصيغة البديلة تثير الإحساس نفسه عند القارئ على نحو سريع" حسب تحديد إيليوت نفسه. وفي الواقع فإن استخدام إيليوت لتقنية المعادل الموضوعي قد حقق له قفزة نوعية وحطم بذلك التقليد الرومانسي المؤسس على فرضية مفادها أن مصدر القصيدة هو ذات الشاعر أو لنقل شخصيته. إن هذا الإنجاز الذي رسخه إيليوت قد جعله يرسي دعائم نظريته القائلة بأن الشعر هو الهروب من الشخصية وهو بذلك قد سبق كلا من رولان بارط وميشال فوكو اللذين أعلنا بعد إيليوت بسنوات طويلة خبر "موت المؤلف".والحال فإن تأثر الصبور بإيليوت لم يعصمه من النزعة الرومانسية التي حاول أن يتجاوزها في قصيدة "الظل والصليب" المنشورة في مجموعة "أقول لكم" التي تجعلنا نحس مباشرة بتأثرها بقصيدتي إيليوت "الأرض الخراب"، و"الرجال الجوف" ، ولكن لابد من القول بأن هذا التأثر لا يلغي النكهة الخاصة لشاعرية الصبور وتجربته ذات النبرة المتميزة في بعض الأحيان، كما أن التأثر الإيجابي لا يلغي دائما عند الصبور أو عند غيره من الشعراء تميز الشخصية .نحن نعلم أن إيليوت نفسه قد أعلن مرارا وبوضوح في نصوصه النقدية وخاصة في نصه الشهير "الموروث والموهبة الفردية" أن الشاعر الجيد يسرق، أما الشاعر السيء فيقلد، وأكثر من ذلك فإنه شدد على أنه متأثر بدوره بالشعر الغربي، وخاصة بالشاعر دانتي الذي يعتبره أعظم الشعراء، وفضلا عن ذلك فإننا نجد عدة مقتطفات في قصائد إيليوت وهي لشعراء آخرين منهم بودلير دون أن يذكر المصدر.ويلاحظ أن التأثر شيء ونسخ تجربة شاعر من الشعراء بالكامل شيء آخر. أعتقد بأن الذي فعله الصبور بإيليوت قد فعله إيليوت نفسه بالتراث الشعري للشعراء الغربيين السابقين له في أحايين كثيرة، ولكن كلا منهما حافظا على النكهة الخاصة لتجربته. أنا أتفق مع الدكتور شاهين على أن هذا السطر من قصيدة الصبور وهو: "إنني خاو ومملوء بقش وغبار" مأخوذ بالكامل من قصيدة إيليوت "رجال الجوف" مع إضافة كلمة "غبار" من عنده فقط، ولكن التجربة التي تعكسها قصيدة الصبور ليست إيليوتية بالكامل.إن تأثر الصبور بإيليوت واضح ولا شك فيه ولا يحتاج فقط إلى التركيز على قصيدة واحدة، وإنما على دراسة مقارنة تامة وشاملة تأخذ بعين الاعتبار كل أعماله، وأعمال إيليوت المسرحية، والشعرية، ونظرية المعادل الموضوعي الإيليوتية التطوير وليس الابتكار من حيث المصطلح على الأقل. تأثر السيّاب .. وبخصوص الشاعر العراقي بدر شاكر السياب يرى الدكتور محمد شاهين أن علاقته بتجربة إيليوت تختلف جوهريا عن تلك التي نسجها عبد الصبور مع مضامين وتقنيات الشاعر إيليوت وبهذا الخصوص كتب مبرزا أن السياب قد "أفلت من سطوة هذا التأثير لتشكل أنشودته صورة قائمة بذاتها ومستقلة تماما عن المصدر" وذلك "رغم كل ما في أنشودته من ظلال رائعة إيليوت "الأرض اليباب" .

ولكي يقتفي الدكتور شاهين تفاعل بدر شاكر السياب مع قصيدة إيليوت المذكورة راح يبحث من خلال المقارنات بين قصيدة "أنشودة المطر" ، وبين "الأرض اليباب" مركزا على المقاطع التي يلاحظ فيها تأثر السياب بإيليوت ، ويستنتج من هذا التحليل أن "السياب لم يقع في المحاكاة الخارجية الشكلية وإنما كان تأثره يتميز بأصالة تغني القارئ عن الرجوع إلى مصدر التأثير من أجل تذوق النص الجديد" .. درويش وبروفرك إيليوت .. يعقد الدكتور محمد شاهين مقارنة بين قصيدة درويش "الجدارية" وبين قصيدة "بروفرك" مطبقا ما يدعوه بنظرية ما بعد الاستعمارية في تحليلاته التي لم يقدم بشأنها شيئا يذكر لكي يتعرف القراء العرب على أسسها، ومرجعياتها، ومفاهيمها وصلاحيتها لتناول الشعر الفلسطيني على ضوئها باعتباره شعر معارضة للاستعمار الإسرائيلي. سوف أتوقف عند نموذج واحد من المقارنة التي يعقدها الدكتور شاهين وهي الخاصة بموضوع الزمن عند إيليوت وعند درويش.فالدكتور شاهين يرى أن درويش لا يتعدى تأثره بإيليوت توظيف الفكرة نفسها وإن "بشكل مغاير". إنّ استخدام إيليوت للزمان في قصيدة "بروفرك" هو من باب الاقتباس من الكتاب المقدس، وبشكل حرفي وأن من يراجع صفحات الكتاب المقدس "سفر الجامعة - الإصحاح الثالث، صفحات 1 - 8" فإنه يجد أطروحته صحيحة.هنا أزعم أن قصيدة "بروفرك" متأثرة كثيرا بمضمون "سفر الجامعة"، كما أن إيليوت يقتبس كعادته الكثير من العهد القديم والعهد الجديد من الكتاب المقدس. ومما لا شك فيه أن درويش يحاكي إيليوت في استخدام فكرة الزمان، وإن كان هذا التأثر ضعيفا شعريا بالمقارنة مع عمق إيليوت الفكري، ومهاراته في استخدام المعادل الموضوعي كتكتيك في القسم الذي يبرز فيه تردد شخصية "بروفرك"، وقلقها الوجودي .صحيح بأن إيليوت يستخدم الزمن فلسفيا وسيكولوجيا كما قال الدكتور شاهين، وهذا ما جعل قصيدته أكثر عمقا. في حين بقي استخدام درويش شكليا، وزخرفيا، ومجرد حيلة لتوليد الإيقاع الموسيقي الخارجي وليس لتوليد السؤال الفلسفي العميق. ففي تقديري فإن درويش لم يتأثر فقط في مجموعته "الجدارية" بإيليوت بل تأثر أيضا في نصوصه الشعرية الأخيرة بقصائد إيليوت المدعوة بـ"الرباعيات الأربع" وخاصة من حيث التقنية والبناء وتحديدا بمنهج المعادل الموضوعي .إن الفرق الجوهري بين الشاعر الإنكليزي "إيليوت" والشاعر درويش يتمثل في أن الأول هو شاعر القلق الحضاري والفلسفي، والتاريخي والوجودي، وأن الثاني، أي درويش، شاعر المعارضة الرافض للاحتلال الإسرائيلي، و شاعر الحنين إلى زمن قد تبنى فيه الدولة الفلسطينية. وبسبب ذلك فإن تأثر درويش بإيليوت تقني، وفي الصنعة، وبالتالي فهو شكلي ولا يرقى إلى العمق الفلسفي.

 

 
 



 صفحة للطباعة صفحة للطباعة

 أرسل هذا الخبر لصديق أرسل هذا الخبر لصديق

 
 

 
 

· البحث في اخبار ثقافية
· البحث في اخبار جميع الصفحات


أكثر خبر قراءة في ثقافية:
كيف غزا حاتم علي السينما المصرية؟