مقالات وتقارير: الانتفاضة الفلسطينية الثالثة

 
 


مأمون الحسيني
لا يختلف اثنان على أن أوضاع وظروف الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، وفي القلب منها مدينة القدس التي تكتمل دائرة تهويدها، باتت ناضجة تماماً لاندلاع انتفاضة ثالثة من خلال بوابة الأسرى التي استقطبت عشرات آلاف المتظاهرين، وفجّرت سيلاً من المواجهات مع جيش الاحتلال، إثر استشهاد الأسير عرفات جرادات . ذلك أن ما يتعرض له هؤلاء القابعون تحت الاحتلال منذ نحو ستة وأربعين عاماً، يتجاوز عمليات السرقة المتواصلة لأراضيهم، وبناء وتوسيع المستوطنات، وجرائم القتل والطرد والاعتقال وهدم المنازل المستمرة منذ عقود، إلى رزمة ضخمة من الممارسات "الإسرائيلية" اليومية، من نمط التنكيل على يد المستوطنين، والاقتحامات العسكرية للقرى والمخيمات، والاستيلاء على البيوت "لأغراض عسكرية"،



 وإغلاق الطرق، والإهانة في الحواجز، ومنع الخروج من غزة أو الضفة، والعيش في ظل الأرض التي صودرت، إما لمستوطنة مجاورة، وإما لجدار الفصل، والانتظار لساعات في مكاتب ما يسمى "الإدارة المدنية"، والتحقيقات المذلّة في أقبية المخابرات المختلفة، والإدانات بالجملة في المحاكم العسكرية، فضلاً عن القيود الاقتصادية القاسية التي حوّلت حياة مئات آلاف الفلسطينيين إلى جحيم لا يطاق .وعليه، وعلى قاعدة العثور على مقدمات ونذر إضافية للانتفاضة الثالثة، كالقول إن الفلسطينيين لم يفكروا "بمصدر رزقهم" عندما أطلقوا الانتفاضتين، الأولى والثانية، والحسم بأن الانتفاضات الشعبية أكبر من التنظيمات ومن القيادات، وأكبر من دولة الاحتلال، والتأكيد أنه، ومثلما فاجأت تونس ومصر الجميع، يمكن للشعب الفلسطيني أن يفاجئ الجميع أيضاً بانتفاضة ثالثة، والزعم أن الشعوب تفرز قيادات ميدانية جديدة لا تأخذ تعليماتها من جهات "تنظيمية" أعلى منها، في إشارة إلى مواقف كل من "فتح" و"حماس" غير المعنيتين الآن، وفق معظم التقديرات، بانتفاضة جديدة، يصر العديد من المراقبين والمحللين على أن الفلسطينيين يقفون اليوم على أبواب انتفاضة ثالثة لن تكون موجهة فقط ضد الاحتلال، وإنما ستوجه كذلك بعضاً من جهدها وفعالياتها ضد الانقسام الذي فرض أولويات مضرّة: الحزبي على حساب الوطني، والعقائدية على حساب الفلسطينية . لا بل إن بعضهم أشار إلى التواتر الزمني للانتفاضات الفلسطينية (مرة كل 13 عاماً تقريباً) للتأكيد أن ما نشهده هو بداية الانتفاضة الثالثة .
غير أن كل ذلك، وبصرف النظر عن صحة ووجاهة المقارنة المعقودة ما بين الحالة الفلسطينية التي تواجه عدواً قومياً استيطانياً وظيفياً، ومثيلاتها العربيات التي أفرزت نظماً سياسية تعمل تحت المظلة الأمريكية، وتغرق شعوبها في بحر من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية . كل ذلك لا يقدم مقاربة واقعية وموضوعية شفافة للحال الفلسطينية التي تمر بظروف معقدة لا تفسرها الظواهر المرئية الطافية على سطح المشهد، ولا يستقيم معها النظر من زوايا ضيقة تحجب أجزاء واسعة من الصورة . ولعلنا لا نجانب الصواب إذا ما زعمنا أن ثمة ضبابية وارتباكاً وتباينا في الحديث المتخم بالانفعال والعواطف عن طبيعة ووظيفة الانتفاضة التي دخلت القاموس الدولي، من حيث إنها شكل من أشكال "حرب الشعب" الطويلة الأمد وهي، بهذا المعنى، مازالت مستمرة، وعلى شكل موجات، منذ نحو سبع سنوات (المسيرات والاحتجاجات على الجدار وعمليات الاستيطان، مسيرات بلعين الأسبوعية، إضرابات الجوع . . .) .ومع أن أحداً لم يحدد طبيعة الانتفاضة المتوقعة ومداها، غير أن ثمة ضرورة لتسليط الضوء على بعض العقبات والمعضلات التي تؤثر، وبشكل ملموس، في تفجّر انتفاضة شاملة ليس وفق مواصفات بعض القادة الذين يرون فيها مجرد أداة ضغط، لتحسين شروط التفاوض، وإنما وفق المقاييس المتوقعة من قبل البعض، أي انتفاضة شاملة وعنيفة تستطيع تحقيق إنجازات ملموسة في أسرع وقت ممكن، وذلك انطلاقاً من معطيين متداخلين: دروس الانتفاضتين السابقتين، وواقع الفلسطينيين الذي يدب على الأرض في الأراضي المحتلة تحت ظلال سلطتين متنافستين، الأولى تدعو إلى الحذر و"عدم الانجرار" إلى الاستفزازات "الإسرائيلية"، والثانية  تتحدث بصوتين: صوت وقف النار والاستقرار والتنمية حين يتعلق هذا بقطاع غزة، وصوت الجهاد والكفاح المسلح عندما يتعلق الأمر بأي مكان آخر .
يمكن، وبعجالة، وبصرف النظر عن التقديرات والإجراءات "الإسرائيلية" التي تنحو باتجاه التخفيف من بعض القيود المفروضة على الفلسطينيين، والإفراج عن أموال الضرائب العائدة إلى السلطة، والاستنتاج، على هذا الأساس، أن حظوظ تفجّر انتفاضة فلسطينية على نطاق واسع باتت أقل من السابق، يمكن التذكير بأنه في الانتفاضة الأولى التي وجه إليها "اتفاق أوسلو" ضربة مميتة، كان الاحتلال، وكان الوضع الاقتصادي الفلسطيني الجيد، وكانت قيادتان متنافستان واحدة وطنية تضم فصائل المنظمة، وأخرى إسلامية، وفي الثانية، كانت السلطة الفلسطينية، وكان التراجع اللافت للفعاليات الشعبية لمصلحة المقاومة المسلحة . وأما في الثالثة المأمولة، فثمة دولة فلسطينية "غير عضو" معترف بها، وانقسام فلسطيني أفقي وعمودي يتكرّس باستمرار، ووضع اقتصادي وسياسي سيّئ جداً، فضلاً عن تآكل التفاؤل الذي رافق ما يسمى "ثورات الربيع العربي"، وتراجع منسوب الأمل بتأكيدها البعد القومي لحركتها التغييرية عبر بوابة فلسطين وقضيتها الوطنية، دون أن يلغي كل ذلك وجود مزيج وطني وسياسي واقتصادي واجتماعي فلسطيني محتقن يمكن انفجاره، وعلى نطاق واسع، في أية لحظة.

 

 
 



 صفحة للطباعة صفحة للطباعة

 أرسل هذا الخبر لصديق أرسل هذا الخبر لصديق

 
 

 
 

· البحث في اخبار مقالات وتقارير
· البحث في اخبار جميع الصفحات


أكثر خبر قراءة في مقالات وتقارير:
أزمة لبنان والرهانات الكبرى في الشرق الأوسط