سياسية: اذهبوا فانتم الطلقاء .. نداء التسامح بين العراقيين

 
 


 نصيف الجبوري
صيحة الحرية التي حررت العرب والبشرية من الانتقام والثأر وسفك الدماء والتي أسست نواة التسامح الديني والقومي والعشائري والتي بنت فيما بعد قواعد راسخة لمجتمع مدني تعاوني يطوي صفحة الماضي القريب والبعيد ويفتح صفحة البناء للحاضر ويتطلع لمستقبل افضل ليس فقط لعرب الجزيرة العربية فحسب انما للبشرية جمعاء. هذه النداء وصل الى الافاق الاربع في ذلك الوقت فكانت الشعوب تنتظر طلائع الفتح لتنعم بالحرية والمساواة بين البشر سواء لدى فارس او بلاد الروم. نعم لقد أسس رسول الله دولة عادلة كانت من اسسها الرئيسية الحرية بكل اشكالها لذا كان انتشار فكرها قد سبق جيوشها فكانت بضع عقود كافية لانتشار الاسلام في أرجاء العالم القديم من الصين الى المغرب.



في المقابل نسمع صيحات الطائفية والتعصب تخيم على العراق هذه الاشهر وفي ظل توتر الاوضاع السياسية الحالية والتي يمكن ان تنفجر في أية لحظة. لا بد من العقلاء ان يتفحصوا هذه الاجواء المشحونة بطريقة هادئة بعيدة عن التوتر والانحياز لهذا الطرف او ذاك. مستلهمة بذلك سياسة رسول الله المتسامحة مع جميع الفرقاء مسلمين ومشركين ومنافقين ويهود ونصارى وفق مبدأ لا أكراه في الدين. فبدون سياسة التسامح والعفو التي تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار ولا تفرق بين سني وشيعي ولا بين عربي او كردي او تركماني ولا بين مسلم ومسيحي أي لا فرق بين عراقي وعراقي لا يمكن بناء وطن يحتضن الجميع مستعينين بمبدأ صيحة الحرية الفكرية لجميع المواطنين في دولة اساسها المواطنة ضمن نداء يجب ان نكرره دائما في هذه الظروف الحرجة والذي قاله رسول الله قبل اكثر من اربعة عشر قرنا بعد فتح مكة المكرمة اذهبوا فأنتم الطلقاء. لعل من اوائل المعنيين بهذا الامر هم السياسيون خصوصا رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان ورئيس القائمة العراقية ورئيس اقليم كردستان ورئيس التيار الصدري ورئيس المجلس الاعلى ورئيس الحزب الاسلامي ورؤساء الاحزاب والتنظيمات والحركات السياسية الاخرى المنضوية في العملية السياسية او المعارضة لها ورجال الدين المسيسين من جميع الاطراف ان يعودوا الى رشدهم فالبلد لجميع العراقيين ولا يمكن لطائفة او فئة او قومية ان تقضى على الاخرى مهما اوتيت من قوة ومبدأ استسلام او استئصال طائفة لأخرى مرفوض ولا يمكن ان يقبله أحد ظالما او مظلوما.
ليست امام العراقيين حلول سحرية بعد كل تلك الاخطاء والخطايا منذ بداية العملية السياسية عام 2003 لحد الان وينبغي عليهم ان يتعلموا من مخاطر الحرب الطائفية بين عام 2006 و عام 2008 بأن الشيعة لا يمكن ان يستأصلوا السنة والسنة لا يمكنهم ايضا ان يستأصلوا الشيعة. لكن الحقيقة الماثلة امامنا الان بعد السنيين العشر العجاف ان الأغلبية تلوثت ايديهم بدماء الاغلبية والأقلية تلوثت ايديهم بأعراض الاقلية من دون الحديث عن سرقة المال العام والرشوة والمحسوبية والمنسوبية والإرهاب المعاكس ولا يمكن لأحد ان يزكي أحداً او يمن أحد على أحد فأن كان النظام الصدامي المباد ديكتاتوري وهاوي حروب فأن انظمة ما بعد الاحتلال تكاد تبيض وجه النظام السابق الكالح السواد نتيجة سياساتها الكارثية المتمثلة بالمحاصصة والحروب الطائفية وفقدان الهوية وفقدان الامن والامان وعسكرة الدولة وتفشي الرشوة وسرقة المال العام. ينبغي اولا وقبل كل شيء المحاولة في وضع سياسة لتفكيك الازمات المترابطة والمتشابكة فلا يمكن ان تحل الامور بين ليلة وضحاها في سلة واحدة. فالجانب الطائفي الذي يبدوا للمراقب بأنه الاكثر خطورة وحراجة في الوضع الراهن. أذ يجب على جميع السياسيين ان ارادوا ان يطفئوا الحرائق التي بدأ الناس يشعرون بحرارتها ويكتوون بنارها ان يمارسوا سياسية النأي بالنفس للدفاع عن هذه الطائفة او تلك بدلا من الدفاع عن المواطن ايا كان مذهبه. لأن تسييس أي مذهب بحجة المظلومية او رفع الضيم لا يمكن ان يخدم الوطن او المواطن او حتى المذاهب نفسها. فالمذهب الشيعي او السني ليسا احزاب سياسية انما مدارس فقهية اسلامية يتعبد بها الناس باختيارهم الحر في البيت او دور العبادة. اضافة الى ذلك فالسياسي الشيعي او السني لا يحق له بأي حال من الاحوال الاعتقاد بأنه يمثل المذهب او يتحدث باسمه لأن المسلم من كلا الطائفتين ليس بحاجة لمحامي كي يدافع عن مذهبه. لان الطرفين وبكل بساطة يتمتعا بممارسة حريتهما الدينية ولم يجبرهما احد على التسنن او التشيع. أما الجانب السياسي المتعلق باختيار الشعب لأحزابه وتنظيماته الاجتماعية والمهنية فهو من الاهمية بمكان بحيث لا يمكن بناء الحاضر والتطلع الى المستقبل من دون رسم خارطة طريق واضحة ترتكن الى برامج رصينة ضمن سقوف زمنية محددة يتعرف فيها العراقيون على سياسات تلك التنظيمات في ادارتها للحكم وبرامجها التفصيلية منذ الاشهر الاولى لاستلام الحكم والسنوات التي تليها. والتعرف على رؤيتها للمشكلات العالقة وسبل حلها بوضع إستراتيجية رشيدة تتعلق بالبناء الثقافي والعلمي لإخراج البلاد من الدائرة المغلقة التي تدور حولها. وضرورة تطوير التربية الوطنية التي انحرفت عن نهجها منذ حوالي نصف قرن. ووضع رؤى مستقبلية على المديين القريب والبعيد لترسيخ الهوية العربية للدولة. لا يمكن بطبيعة الحال الوصول الى هذه الاهداف النبيلة من دون تبني الدولة المدنية التي يجب ان تسير بمعزل عن تأثير هذا المذهب او ذاك. فلقد شاهدنا ان الاصطفاف المذهبي والخلط بين السياسي والديني قد أوصلنا الى الحرب الطائفية وسيؤدي بنا حتما الى العودة اليها مرة اخرى لا سمح الله.
ان هناك مسؤولية كبيرة أمام الله والوطن تقع على عاتق السياسيين المتعصبين والطائفيين وبعض رجال الدين المتزمتين الذين دخلوا في دهاليز السياسة. ان لا يكونوا في هذه الظروف العصيبة حطب جهنم ويدفعوا بآلاف المؤلفة نحو التعصب الطائفي والمذهبي بخطاب اقصائي استئصالي متعصب يولد الحقد والكراهية نحو الاخر ويترجم الى عنف ارهابي عبر القتل والخطف والابتزاز والمفخخات. من الغريب حقا ان يكتشف العراقيون انفسهم بعد الاحتلال عام 2003 بأنهم اطياف ومكونات من مسلمين ومسيحيين وصابئة ومن سنة وشيعة ومن عرب وأكراد وتركمان. ألم يكونوا كذلك منذ الالف السنين وتعايشوا فيما بينهم لبناء وطنهم قبل وبعد الاسلام. لكن تحطيم اللحمة الوطنية التي جاء بها الاحتلال قد غيرت النفوس وأصبح العراقيون على ما هم عليه يحركهم الطائفيون وفق مصالحهم الانانية الضيقة المذهبية والمناطقية والعشائرية.
لقد عانى هذا الشعب الابي منذ حوالي خمسة وستين عاما من الفتن والانقلابات والحروب والدكتاتوريات وصبر عليها وتحمل مآسيها. لكنه شعب يستحق ان يتمتع بحياة رغيدة ويعيش بسعادة شأنه شأن الشعوب الاخرى. أنه ليس من الانصاف ان يتحصن السياسيون ورجال الدين التابعين لهم وراء السيارات المصفحة المضادة للرصاص ويحميهم عشرات الافراد المدججون باحدث انواع الاسلحة وفوق هذا وذاك تعيش عائلاتهم في احدث الشقق او القصور في الاحياء الاميركية والفرنسية والبريطانية والاسبانية والمصرية واللبنانية والأردنية والإماراتية والإيرانية والتركية وغيرها. في حين يدفع المواطن العادي خطيئة خطابات السياسيين العنترية المتطرفة الاقصائية وكما يقال ما هكذا تورد الابل. ان هذه الاساليب العنيفة غير المسؤولة ستبعث بالملايين نحو الاقتتال الداخلي الذي لا يبقي ولا يذر. فالحذر كل الحذر من العودة الى المربع الاول عندما كان العراق هو صدام وصدام هو العراق. وينبغي ان لا نعود بالوطن مرة اخرى الى ديكتاتورية الفرد الواحد او الطائفة الواحدة او القومية الواحدة فالعراق للعراقيين أيا كان دينهم ومذهبهم وقوميتهم وجنسهم. مثلما اضحى العراق اليوم بحاجة الى الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والإعلامية فهو ايضا بحاجة الى الفصل بين الازمات المتشابكة كالطائفية السياسية والهوية الوطنية والمحاصصة والأقاليم فلكل مقام مقال ولكل حدث حديث. ولنتذكر دائما بأن رسول الله لم يبن وطنا أو أمة بالثأر والانتقام والاعتقالات والتعذيب بل بالتسامح والعفو والحرية والتكافل الاجتماعي مما جعل الكثير من اعداء الاسلام الالداء في الماضي يضحون بأموالهم وأنفسهم للدفاع عن الامة بعد أسلامهم. نعود كما بدأنا مقالنا لنستشهد بفتح مكة المكرمة فقد أهدر رسول الله دماء بعض القتلة والمجرمين والعملاء والغدارين لكنه عفى وأصفح عنهم جميعا فالعفو عند المقدرة صفة الاقوياء والنبلاء والشرفاء. في العراق اليوم ايضا اذا ما اردنا بناء عراق قوي جديد قولا وفعلا على العراقيين ان يفتحوا صفحة جديدة في الحوار تلغي الماضي القريب بكل ماسيه وتتطلع لبناء عراق متسامح قوي بعدالة قوانينه وتوازن حكومته وتعاون شعبه.

 

 
 



 صفحة للطباعة صفحة للطباعة

 أرسل هذا الخبر لصديق أرسل هذا الخبر لصديق

 
 

 
 

· البحث في اخبار سياسية
· البحث في اخبار جميع الصفحات


أكثر خبر قراءة في سياسية:
الثورة.. تعريفها.. مفهومها.. نظرياتها