وثائق: ما قاله هيكل وما لم يقله

 
 


محمد رؤية ناظم
في حديثه لإحدى الفضائيات المصرية، خرج الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل عن صمته الذي لزمه على مدى تلك الأحداث الخطيرة، والمصيرية، التي تمر بها مصر منذ إعلان الرئيس "محمد مرسي" لما أسماه الإعلان الدستوري، الذي رأت فيه القوى الوطنية المصرية والقطاعات العريضة من شعب مصر وشباب ثورة يناير التاريخية، أنه يمثل خروجاً على الشرعية التي أتت بـ "مرسي" لرئاسة الجمهورية، ويأسس في ذات الوقت لدكتاتورية جديدة لحساب "الجماعة" وحكم "المرشد"، وزاد الطين بلة، الإصرار ـ من جانب الرئيس وتيارات الإسلام السياسي ـ على الإسراع في صياغة دستور معيب وغير توافقي، وتقديمه للاستفتاء قفزاً على كافة ما وعد به الرئيس، وما قطعه على نفسه من تعهدات بإعادة تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور، وهو ما أشعل فتيل أزمة سياسية خانقة ومتصاعدة، تسير في نفق مظلم ليس فيه حتى بصيص ضوء.



وكعادته.. كشف "محمد حسنين هيكل" عن الكثير من الحقائق الغائبة، وخاصة خبايا أحداث الفترة الانتقالية التي تولى فيها المجلس العسكري السلطة، كما كشف عن تصورات الخارج والعالم، ورؤيته، لما يحدث في مصر، ومستقبل مصر السياسي، وكعادته ـ أيضا ـ كان واضحاً كل الوضوح أن هناك الكثير من الحنايا بين تلك السطور القليلة التي أفصح عنها خلال حديثه، ولكن وبالمجمل، نستطيع أن نقول أن الحديث حمل الكثير من الحقائق التي ينبغي على كافة أطراف الصراع السياسي في مصر، أو المواجهة السياسية وضعها في الاعتبار.
لقد تحدث "هيكل" عن مشاهد منفصلة، واضحة كل الوضوح، أسقط كل منها على واقع، أو واقعة، وكانت هذه الإسقاطات معبّرة عن بعد من ابعاد المأزق السياسي الذي دفع فيه الرئيس مرسي مصر والمصريين إلى هذا الانقسام غير المسبوق، والذي بات يهدد الوحدة الوطنية، ويضربها في مقتل.
وأولى المشاهد الذي عبّر عنها الكاتب الكبير، واستنكرها، تلك السرعة الكبيرة في ردود الافعال من جانب الرئاسة و "الجماعة" والتي لا حظها في اعتماد مسودة الدستور في جلسة عاجلة للجنة التأسيسية المختلف عليها، والمعيبة، خلال جلسة عاجلة رغم أن الإعلان الدستوري المختلف عليه مدّد عمل الجمعية التأسيسية  لشهرين، ثم تسلم الرئاسة نسخة من المسودة وإصدار قرار عاجل بالاستفتاء خلال خمسة عشر يوماً، هذه السرعة في رد الفعل عزاها الأستاذ "هيكل" إلى أن جماعة الإخوان المسلمين "يخشون من ماضٍ يعرفونه.. ومستقبل لا يريدونه" في حال إبعادهم عن السلطة التي حملتهم إليها ثورة يناير التاريخية معتبراً أن هذه الفرصة التاريخية التي سنحت لهم بالوصول إلى السلطة بعد ثمانين عاماً عملوا فيها تحت الأرض لن تتكرر، ولن تتاح لهم مرّة اخرى.
أما المشهد الثاني فقد كان محاصرة المحكمة الدستورية من قبل تيارات الإسلام السياسي، لمنعها من إصدار حكمها حول مجلس الشورى واللجنة التأسيسية للدستور، المطعون في شرعيتهما الدستورية، وقد ضرب مثلاً حول هذه الواقعة بما حدث في العام 1933 عندما اكتسح النازيون الانتخابات البرلمانية في ألمانيا ـ مع الفارق في التشبيه وفقاً لما قال الكاتب الكبير ـ  وكان رد فعل المعارضة الألمانية أن أحرقت البرلمان، وقد اعتبر "هيكل" أن حصار المحكمة الدستورية إرهاباً للقضاة، لمنعهم من إصدار الحكم، وهو ما اعتبره إلغاءً لدولة القانون.
وكان المشهد الثالث مهيباً، ولا ينبغي تجاهل معانيه ومغزاه ـ على حد تعبير هيكل ـ فقد خرج شباب الثورة إلى الميادين والساحات وكانت وجهتهم الرئيسة قصر الاتحادية "قصر الرئاسة" بدون قيادات سياسية، وهو ما يعني ولادة أمة على الهواء مباشرة، وكان هذا اليوم حلقة وصل تاريخية مع ثورة الخامس والعشرين من يناير التي ما زالت تحيا في قلوب الشباب الثوري، وقد اعتبر "هيكل" أن هؤلاء الشباب بخروجهم ذلك اليوم "فتحوا طريقاً ومنفذاً للرئيس" للعدول عن قراراته التي يعتبرها "هيكل" أنها أخطاء تاريخية، ولكن الواقع يقول أنه تم تجاهل هذه المنافذ التي أتاحها هذا الخروج، معلقاً على دعوات المتظاهرين الرافضين للدكتاتورية الجديدة بأن ما أقدم عليه النظام يصنف بالأخطاء التاريخية، وقد عقد الكاتب الكبير مقارنة موضوعية حول أحداث اليوم واحداث 1977، والمظاهرات التي خرجت بعد زيادة الأسعار، وعدول "السادات" عن قراراته، ورأى الكاتب الكبير أن "مرسي" كان ينبغي عليه العودة عن قراراته، حيث أن مظاهرات الرابع من ديسمبر كانت دليلاً واضحاً ومؤشراً خطيراً على الشعب المصري اكتشف أن أهداف ثورة يناير التاريخية لم تتحقق، وقد فسر "هيكل" ما يجري بأن "مرسي" لم يقرأ الملفات الرئيسة والأهم.
المشهد الرابع جاء ليكشف ـ وفقاً لهيكل ـ عن أهم حقائق الصراع، فقد ربط بين إصدار الإعلان "الدستوري" الذي اعتبره قفزة في الظلام، وخروج مبارك بسهولة لأنه اعتبر أن بقاءه كان مستحيلاً، بتأثير موقف الخارج مما كان يجري في مصر تلك الأثناء، وهو ربط موضوعي إذا كان "هيكل" يعني تكرار موقف الخارج اليوم، حيث أن هناك رفض دولي لما يجري في مصر، مشددا على أن عامل الخارج مؤثر وفعال، رضينا بهذا أو لم نرض، مدللاً على ذلك بطرح فكرة الانتخابات أولاً في مصر/ أم الدستور أولاً، وقال "هيكل":
" إن خيار الانتخابات أولاً لم يكن خياراً مصرياً، وكانت هناك ترتيبات مع الولايات المتحدة الأميركية التي انحازت لفكرة التعديل الدستوري ثم الانتخابات، على أن يأتي وضع الدستور لاحقاً، معتبرة ـ أميركا ـ أن تيارات الإسلام السياسي موجودة في مصر وقوية وتستطيع تسيير الأمور وتحقيق المصالح الأميركية، وهو ما حدث.
ولتأكيد دور الخارج وأهميته استعرض "هيكل" احداث 2007 في إيران، وما أسمي بالمرحلة الانتقالية، حيث أن الخارج حوّل حركة احتجاج محدودة إلى فضيحة عالمية، ساهم فيها العدو الصهيوني عبر (7) سبعة مواقع (تويتر) وساهم فيها الغرب عبر شبكة المعلومات الدولية "الانترنت". المشهد الخامس، يفسر فيه "هيكل" بعض أحداث الفترة الانتقالية، حيث يقول أن المجلس العسكري تحمّل مسؤولية لم يكن مهيئاً لها، وأوضح "هيكل" أن المجلس العسكري رفض تكليف "مرسي" برئاسة الوزارة بعد انتخابات مجلس الشعب، وقد أشار الكاتب الكبير إلى رفض" المشير طنطاوي " تسليم السلطة للإخوان على حد تعبيره، واعغتبر "هيكل" أن المجلس العسكري تورط في تسلم البلاد، مشيراً إلى أن "سلاح  الجيش المصري ليس في يده .. وذخيرته ليست في يده"، وهو ما يعني أن القرار المصري مرهون بإرادة مصدري السلاح لمصر، أو محتكريه على وجه الدقة، في إشارة واضحة إلى أن القرار المصري سيظل مرهوناً بقدرات القوات المسلحة التي هي في الأساس رهن الولايات المتحدة الأمريكية مصدر تمويل مصر بالأسلحة والذخائر، وهو ما يضع مصر والمصريين بعد ثورة يناير التاريخية أمام سؤالين:
إلى متى تظل أميركا مسيطرة على القرار المصري...؟ ومتى تستطيع  مصر التخلص من هذه الهيمنة بتنوع مصادر التسلح..؟!!
وقد أوضح "هيكل" في هذا السياق رؤية الولايات المتحدة الأميركية القديمة الجديدة، وقد نقلها إليه "جون فوستر دالاس" بوضوح، حيث نرسّخ لدى الأمريكيين اعتقاد بعد الحرب العالمية الثانية بأن " الإسلام هو المؤثر الوحيد الذي يمكن أن يشكل جامعاً في المنطقة العربية وليس القومية العربية التي تتجاهل أمريكا دورها"، وهم يتطلعون ـ الأميركيون ـ إلى إقامة حلف في منطقة الشرق الأوسط يرتكز على "اسطنبول" العثمانية، ومصر الأزهر، وباكستان أكبر دولة إسلامية وجيشها الأكبر والأقوى، معتبرة ـ أميركا ـ أن الحكم الإسلامي يضمن لها مصالحها. المشهد السادس وفي شهادة تاريخية على أن ثورة يوليو التي قادها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر أنجزت لمصر ولشعبها مشروعاً تاريخيا يتمتع بأعبعاد سياسية وتنموية وأخلاقية، دلّل هيكل بالأرقام على أن مصر ـ وفقاً لبيانات دولية ـ كانت منذ 35 عاماً تحتل رقم 31 على جدول تريب معدلات التنمية في العالم، وقد تقهقرت إلى رقم 138 الآن، وقد تلقت عبر تلك الفترة أكبر قدر من المساعدات العالمية والقروض والمنح والمعونات وبما يصل إلى "تريليون" دولار، وكلها ذهبت عبثاً، وأوضح "هيكل" أن الإيراد اليومي للخزينة المصرية يصل إلى 1100 مليون جنيه بينما المصروفات اليومية تصل إلى 1650 مليون جنيه وهو ما يعني أن هناك عجز يومي قدره 550 مليون جنيه، وقد وصف الحقبة الماضية بأنها "حقبة تزييف للحقائق وتجريف للموارد"، مشيراً إلى أن مصر اليوم تعيش مرّة أخرى زمن نهاية العصر العثماني، حيث انتشر الفقر والجهل والمرض، وضاعت مقومات الدولة، وأصبحت مصر دولة فاشلة.
وقد نصح الكاتب الكبير  "محمد حسنين هيكل" مصر بالاستفادة من التجربة الهندية، التي اعتمدت على النخبة ـ وليس الانتماء السياسي ـ حتى تستطيع النخبة رفع الكتلة الكبيرة التي يمثلها القطاعات العريضة من الشعب، وهو ما يعني ضرورة الاستعانة بالخبرات وليس بالولاءات، وقد أوضح "هيكل" أنه يبدو بوضوح شديد أن هناك في مصر من يعرفون ماذا يرفضون..!! ولكنهم لا يعرفون ماذا يريدون..!! وفي تحذير واضح للنظام قال "هيكل":
هناك شرخ عميق في مصر.. وينبغي ألا يتحول إلى فلق..!!
المشهد السابع:
في نهاية حديثة، حاول الكاتب الكبير "محمد حسنين هيكل" رسم صورة للمشهد السياسي المصري، وقد بدأ المشهد السياسي بالقول أن ما يحدث في مصر لا يمكن أن يوصف بأنه تصرفات إدارة سياسية، فهناك تربص بوسائل الإعلام وقلق منها، هناك تربص بالقضاء، ويتهم بالتآمر، هناك تربص بالشباب وقلق منهم، العالم الخارجي لا يفهم ماذا يحدث، ولا يقبله، وعلينا أن نتعامل مع العالم الخارجي بحرص وتفهم، هناك محاولات لجعل دور مصر مجرد وظيفة كما كانت في المرحلة المنتهية، وليس دور ريادي وقيادي، هناك دول لا تريد لمصر الخير، فالسعودية على سبيل المثال ترغب في فشل كل الثورات العربية ومنها الثورة المصرية، حرصاً على استقرار نظامها السياسي، ويعتقد "هيكل" أن الخروج من هذا النفق المظلم يأتي عبر خطوات واضحة المعالم رتبها على النحو التالي:
· تخفيض درجة الحمّى السائدة في مصر.
· الحوار الجاد مع القوى السياسية وكافة فصائل الحركة الوطنية المصرية.
· فتح منافذ لتسريب الضغوط ودخول هواء صحي ونقي للأجواء.
· دعوة النخب والاستماع اليهم لإيجاد حلول للمشكلات العالقة وهي كثيرة ومتعددة.
مؤكداً في نهاية حديثه إلى أن "التوعد والوعيد موروث في الخطاب الإسلامي" ولكنه مرفوض وينبغي التخلص منه فورا، وقد دلّل على ضرورة هذا الرفض بالقول:
"الحرس الجمهوري طالب "مرسي" بمغادرة الرئاسة حرصاً على سلامته" وهذا يعني ـ بالنسبة لهيكل ـ أن الأمور لا بد أن تأخذ على محمل الجد.
المفاجأة:
لم يكن مفاجئا أن تسأل مقدمة البرنامج الكاتب الكبير "محمد حسنين هيكل" عن رسالته الأخيرة بعد هذا الحوار المهم، الذي يأتي في لحظات مهمة، وفي ظرف تاريخي مهم، ولكن المفاجأة أن كاتبنا الكبير بعث برسالة حمراء، وعلى وجه التحديد من الكتاب الأحمر لصاحبه الزعيم الصيني الكبير "ماو تسي تونج" ، وتقول الرسالة:
" امسكوا بنادقكم .. والزموا خنادقكم .. فنحن أمام عالم يطاردنا "
فيا ترى لمن بعث بهذه الرسالة الواضحة .. ؟!!
أغلب الظن أنه بعث بها إلى ثوار مصر الذين يتمسكون بتحقيق أهداف ثورتهم التاريخية في الخامس والعشرين من يناير، في مواجهة قوى الشر والعدوان من تيارات الإسلام السياسي التي تعتمد الإقصاء والإرهاب والتخوين، فقد بدا بوضوح أن "هيكل" وإن كان حريصاً على عدم حدوث الفلق، إلا أنه يرفض أساليب الإدارة السياسية الحالية، ويرفض موروث خطاب الاسلام  السياسي في التوعد والوعيد، ومتشائم على مستوى المستقبل القريب.

 

 
 



 صفحة للطباعة صفحة للطباعة

 أرسل هذا الخبر لصديق أرسل هذا الخبر لصديق

 
 

 
 

· البحث في اخبار وثائق
· البحث في اخبار جميع الصفحات


أكثر خبر قراءة في وثائق:
شيمون بيريز مسح له الحذاء وجولدامائير كرمته جمعة الشوان (حكاية مصري قهرالموساد)