وثائق: التحالف بيـن السادات...والإخوان في الهجوم على (عبد الناصر)

 
 


د. محمد فؤاد المغازي
بعد السادس من أكتوبر 1973 لم يعد السادات بحاجة أن يستند في حكمه على شرعية الانتماء لنظام ثورة يوليو 1952. ولم يعد في حاجة إلي أن يكيل المديح لعبد الناصر، أو أن يدقق في حساباته مع الاتحاد السوفيتي. لقد أصبح السادات مطلق اليد في كل شيء. وأصبح في مقدوره البدء في اتخاذ الخطوات التنفيذية لمرحلة هي متناقضة بل ومعادية للمشروع الناصري، تمهد لتغيير نوعي شامل للمجتمع المصري.
وهكذا، كانت حرب أكتوبر 1973 تمثل فاصلا بين مرحلتين، مرحلة الثورة الوطنية، ومرحلة الثورة المضادة، وتمهد لظهور قائد الثورة المضادة بشكل علني مستندا للشرعية الجديدة التي خلفتها حرب أكتوبر، بالرغم من أن دور السادات في تحقيق هذا النصر كان ضئيلا وينحصر فقط في تحديد تاريخ قرار الحرب.



غطت ضوضاء مهرجان الانتصار العسكري، فأسقطت ظلالا كثيفة فحجبت رؤية الحقائق، وفى غمرة الحديث عن المستقبل الذي يحمل للجميع الرخاء والسلام، نسى الكثيرون:" أن الأعجوبة التي تحققت في أكتوبر 1973، كانت بفضل المقاتلين العرب، وبفضل جمال عبد الناصر، وبفضل الاتحاد السوفيتي.
لقد كان الحديث إلى غرائز الناس قد أنساهم أن:"...الانتصار في حرب أكتوبر 1973 يرجع إلى الاستعدادات العسكرية التي بدأت في عهد عبد الناصر...لقد استطاع السادات أن يحقق جلاء إسرائيل عن سيناء ...لأنه كان مستعدا لأن يدفع ثمنا أغلى، مما كان عبد الناصر ليقبل أن يدفعه.
"فإذا كان السادات قبل بشروط بهذه الصرامة، فلأنه أعتقد بهطول وشيك لسيل غزير من الدولارات .
لم يقتصر استبعاد الأبطال الحقيقيين وأولهم الشعب المصري والرئيس عبد الناصر وإنما أمتد طمس وتجاهل أجهزة الدعاية لنظام السادات أدوار من ساهموا في النصر العسكري سواء كانوا أفرادا أو قيادات عسكرية كان لها الدور الرئيسي في نصر أكتوبر العسكري تأتي أسمائهم قبل أسماء الجنرالات التي ظهروا في الاستعراضات العسكرية أو السياسية.
فسقطت أسماء الفريق أول محمد فوزي والفريق عبد المنعم رياض والفريق سعد الدين الشاذلي وغيرهم، كما لم يشار إلي الاتحاد السوفيتي بكلمة شكر عرفانا على ما قدمه من دعم حقيقي ساهم بشكل جوهري في النصر الذي نسبت نتائجه بالكامل إلي السادات!!
هذه الحقائق لم تجد لها منفذا للظهور، ولم تكن الغالبية من الناحية النفسية على استعداد أن تتذكر في وسط أحلام ما بعد أكتوبر. أليس من حق هذا الشعب أن يحلم؟ ألم يكن هذا الشعب هو الذي قاتل؟ وهو الذي دفع تكاليف القتال؟ إذن، فليس إنسانيا أن تثار قضايا تفسد على الشعب المصري فرحته بالنصر، من غير أن يجهد عقله وروحه بالهموم، أو بمراجعة تدقق في الأسماء، والأدوار.
 البدء في الهجوم على التجربة الناصرية / وعبد الناصر
انضمام نخبة من الكتاب والمفكرين في الهجوم على الناصرية وعبد الناصر:
بدأت مرحلة الهجوم على التجربة الناصرية بعد أن اطمئن السادات أن الناصريين ككوادر وأفراد قد تم لفظهم من نظامه الجديد، وبعد التغيير الشامل لمؤسسات ذات الصلة بأمن وحماية نظامه ( الجيش والبوليس والإعلام..الخ )، بعدها بدأت الخطوات العملية والمعلنة في مهاجمة التجربة الناصرية، بغرض إحلال البديل المعادي لها. وانطلقت الحملة الموجهة ضد الناصرية مستخدمة في حملتها التركيز على قضيتين رئيسيتين:
القضية الأولي: الناصرية / وعلاقتها بالديمقراطية.
القضية الثانية: الناصرية / تجربة منغلقة اقتصادية.
استبان للجميع أن الطريق إلي المناصب القيادية في الدولة والبقاء فيها، هو التقرب إلي رأس الدولة السادات، يعززه موقفا معاديا لعبد الناصر والتجربة الناصرية. وعلى أساس قاعدة المصالح، انضم إلى الهجوم على الناصرية وعبد الناصر مجموعة من الكتاب والصحفيين وأساتذة الجامعات، اشتهرت الغالبية العظمى منهم بتأييدهم لعبد الناصر عندما كان يملك بيده مفاتيح السلطة، بل إن غالبيتهم حققوا مجدهم الأدبي والصحفي في ظل نظام عبد الناصر، وقد مارسوا النقد السياسي والاجتماعي للتجربة الناصرية من خلال أعمالهم الأدبية أيام كان عبد الناصر في أدبياتهم أعظم شخصية تاريخية أنجبتها مصر.
كان من بين هؤلاء الكتاب والمفكرين نجيب محفوظ، د. مصطفي محمود، د. فؤاد زكريا. لكن كان نجم تلك النخبة هو الأستاذ توفيق الحكيم الكاتب المسرحي الشهير. لذا، فقد أفردنا مساحة لمناقشة دور الحكيم في الحملة الموجهة إلي الناصرية، وذلك لثقل مكانته الأدبية، ولأنها المرة الأولي التي يدخل فيها الحكيم في خصومة مباشرة مع السلطة ورموزها ويكسر واحدة من القواعد الصارمة التي التزم بها طوال حياته وهي أن لا يقترب من السلطة أو يتصادم معها.
فقد ظل توفيق الحكيم منذ قيام ثورة يوليو 1952 على علاقة ممتازة ومتميزة بعبد الناصر حتى وفاته. وقبل وفاة توفيق الحكيم ذكر أنه كانت تربطه بجمال عبد الناصر علاقة متميزة، جعلته يضع توفيق الحكيم في موقع التقدير والتميز، باعتباره يمثل الأب الروحي لثورة 23 يوليو، خاصة بعد ظهور روايته  (عودة الروح )، والتي تنبأ فيها توفيق الحكيم بظهور المخلص المعبود والبطل المنتظر الذي سيحيي الأمة من رقادها.
وعندما صدر قرارا بإعفاء توفيق الحكيم من وظيفته في دار الكتب، تضامن عبد الناصر مع توفيق الحكيم في مواجهة أحد وزرائه، وبرر موقفه بقوله: هذا الكاتب أثره الكبير على تفكيري. كما أصبح توفيق الحكيم بعد ذلك عضوا بارزا في البرلمان المصري.
 وفي عام 1958 منح توفيق الحكيم ( قلادة الجمهورية ) من عبد الناصر. ولا تسجل الفترة الزمنية من حكم عبد الناصر أن منع لتوفيق الحكيم أي عمل من أعماله الأدبية أو النقدية. على العكس تماما، فقد مارس الحكيم نقده للنظام الناصري في رواياته بنك القلق، والسلطان الحائر وكلها أعمال منشوره في كبري الصحف، وترجمت إلي أعمال فنية.
هذه المكانة التي تفرد بها توفيق الحكيم جعلته يتباهى ويفتخر بالعلاقة الروحية والفكرية التي تربطه بعبد الناصر، ففي مقال له في جريدة الأهرام في 3/15/ 1965 -أي بعد 13 عاما من حكم عبد الناصر- كتب الحكيم:" اخترته بالفعل منذ ثلاثين عاما يوم تصورت الزعيم الذي ننتظره ليعيد إلينا الروح ويجعل من شعبنا الزراعي شعبا صناعيا، ويصنع معجزة أخرى كالأهرام. اخترته يومئذ لبلادنا وانتظرته، وظهر وعجبت للحلم الذي تجسد حقيقة بهذه السرعة وبهذه الروعة وبهذا الوضوح. ثم بدأ الحلم يواجه الواقع في تفصيلاته وتعقيداته…فكنت أتابع الزعيم على البعد في مواجهة الزوابع وأضع نفسي بالخيال موضعه. وأرسم في مخيلتي خططا للنجاة أو للفوز فإذا بي أفاجأ في أكثر الأحيان (بالزعيم) وقد خرج من الموقف أبرع وأحكم مما تصورت ورسمت.
وفى أحيان أخرى أوفق إلى رأى يعجبني في أمر من الأمور، فإذا بي، أجده قد سبقني إليه. وكان تفكيري وتفكيره على صله، مع أنني لم أقابله في حياتي أكثر من خمس دقائق. ثم أجده أحيانا قد صدم الناس بقرار جرئ. فأخلو إلى نفسي أحلل في هدوء ظروفه ومراميه، فإذا بي أجد أنى لو كنت في موقفه لما فعلت غير ما أفعل.
هذه الصلة الخفية بيننا على البعد ما سرها، سرها بسيط: وحدة الينبوع. الينبوع الصافي الذي هو قلب الوطن...من هذا القلب الصافي خرج هذا الزعيم كما خرج كل فرد من أفراد أمته. لهذا كان اندماج الناس فيه...وكان حبهم له...وكان انتصاره. أما بالنسبة لي أنا...فأكثر من الحب. هناك الحلم...الحلم الذي تصورته والتصق بوجودي وتفكيري...نعم الحلم والأمل. ولم يتخلى إنسان عن حلمه أبداً.
بدأ توفيق الحكيم مشاركته في الحملة الموجه ضد عبد الناصر بنشر كراسة صغيرة بعنوان ( عودة الوعي ) والتي ترتب على ظهورها ضجة إعلامية صاخبة. ففي هذا الكتيب لخص الحكيم موقفه من التجربة الناصرية والتي حدد بدايتها بيوم الأربعاء 23 يوليو 1952 حتى يوم الأحد 23 يوليو 1973، فيصفها بأنها كانت مرحلة عاش فيها الشعب المصري فاقدا الوعي، مرحلة لم تسمح بظهور رأي في العلن مخالف لرأي الزعيم المعبود.
نلاحظ أن تحديد عمر التجربة الناصرية من قبل توفيق الحكيم قد جرى بدقة لا تعرف الصدفة، فحدد بدايته بيوم الأربعاء 23 يوليو 1952 حتى يوم الأحد 23 يوليو 1973، وكان هذا بقصد أن يستبعد انتصار أكتوبر العسكري ونتائجه خارج عمر التجربة الناصرية ومفصولا عنها، ليحصر ثمارها لتكون من نصيب السادات وحده، في إشارة تحمل الولاء، وإن كان مختلطا بالنفاق المكشوف.
كما أشار الحكيم أن كتابه ( عودة الوعي بأنها) ليست تاريخا، وإنما مشاهد ومشاعر استرجعت من الذاكرة، ومجملها أنه قد سار خلف الثورة بدون وعى فيقول:" العجيب أن شخصا مثلي محسوب على البلد هو من أهل الفكر قد أدركته الثورة وهو في كهولته يمكن أن ينساق أيضا خلف الحماس العاطفي، ولا يخطر لي أن أفكر في حقيقة هذه الصورة التي كانت تصنع لنا، كانت الثقة فيما يبدو قد شلت التفكير."
"...سحرونا ببريق آمال كنا نتطلع إليها من زمن بعيد، وأسكرونا بخمرة مكاسب وأمجاد، فسكرنا حتى غاب عنا الوعي. اعتدنا هذا النوع من الحياة الذي جعلتنا فيه الثورة مجرد أجهزة استقبال، ويضيف كيف استطاع شخص مثلي أن يري ذلك ويسمعه وأن لا يتأثر كثيرا بما رأي وسمع ويظل علي شعوره الطيب نحو عبد الناصر. أهو فقدان الوعي. أ‎هي حالة غريبة من التخدير.
أسكر توفيق الحكيم الشعب المصري بأكمله، وحوله إلي شعب مخمور، لا يحاسب على أفعاله، لأنه فاقد للأهلية. وليفرغ كل ما صدر عن هذا الشعب من تأييد لثورته ولقائدها من أي معني لأنها ببساطة مواقف صادرة عن شعب من السكارى، شعب كانت ردود أفعاله ومواقفه تتشكل بفعل إدمانه الخمر وعلى مدي الفترة الزمنية التي حددها الحكيم بيوم الأربعاء 23 يوليو 1952 حتى يوم الأحد 23 يوليو 1973، وبالتالي لا يحاسب على سلوكه ومواقفه وقراراته التي أقدم عليها أمام الأجيال والتاريخ.
لم يرتقي توفيق الحكيم السياسي إلي مكانة توفيق الحكيم الأديب والروائي وصاحب مدرسة في المسرح، فأساء وأضر السياسي بالفنان والأديب. وأن ما كان يفوح من كراسته ( عودة الوعي ) ليست رائحة الخمر الذي تحدث عنها بقصد أن تكون وسيلته التبريرية في كل ما صدر عنه، وإنما كانت تفوح منها رائحة النفاق التي تجمع بين رائحة الخمر الكريهة، وبين رائحة الذات، والحكيم كان عاشقا ومحبا لذاته.
كانت اتهامات توفيق الحكيم بغير سند رغم أنه في الأصل رجل قانون. كان عليه أن يدقق وأن يراجع مجرد قوائم وإحصائيات ويقارنها بمرحلة سابقة عاصرها، وكتب عنها. كان عليه أن يراجع ما جري لقطاع الزراعة الذي ألهمه كتابة ( نائب في الأرياف ). كان عليه أن يراجع هل حققت الثورة بدايات على طريق تصنيع البلاد بمثل ما توقع؟ هل راجع أعداد المتلقين للتعليم والمعرفة؟ وهل كان التعليم قبل يوم الأربعاء 23 يوليو 1952 لغير القادرين على دفع تكاليفه؟ أم أنه أصبح بعد يوم الأربعاء 23 يوليو 1952 مشاعا للجميع؟.
وعلى الرغم من انقلاب الحكيم على ذاته وعلى الآخرين وهو يتشابه في مواقفه مع السادات والنخبة التي تقلبت وانقلبت، لا يمكن أن تسقط من ذاكرة المصريين ذلك المشهد الدرامي الذي انتاب توفيق الحكيم وهو يقف ليؤبن جمال عبد الناصر حيث أغمي عليه بسبب انفعالاته، وبعد أن أفاق تحدث توفيق الحكيم فقال :" أعذرني يا جمال. القلم يرتعش في يدي. ليس من عادتي الكتابة والألم يلجم العقل ويذهل الفكر. لن أستطيع الإطالة، لقد دخل الحزن كل بيت تفجعا عليك. لأن كل بيت فيه قطعة منك. لأن كل فرد قد وضع من قلبه لبنة في صرح بنائك.
فأنت لم تكن بالزعيم المصنوع سلفا في مصنع السياسة تربصا للفرص..بل كنت بضعة من جوهر شعبك النفيس صاغها بيده في دأب وحدب بعد طول معاناة وانتظار على مدى أحقاب. فإن يفقدك اليوم يفقد فيك نفسه وثمرة أمله. لذلك كان هذا الرشد الذي طاش من الرؤوس ساعة سماع نعيك. إنه ليس مجرد حب لشخصك. إنما هو الحرص على معنى يعيش به بلدك. لقد جسد الشعب فيك صورة حريته، لقد جعل منك حيا تمثال الحرية لنا.
فأسمح لنا وقد فارقتنا أن نقيم لك تمثالا عاليا في ميدان التحرير. ليشرف على الأجيال ويكون دائما رمزا للآمال، وما ينبغي أن تقيم هذا التمثال سلطة أو دولة. لكنه الشعب نفسه من ماله القليل يقيمه...وما أرخص المال إلى جانب فضلك يا جمال وخاصة _في أعياد العلم_ على الأدباء والعلماء والمفكرين والفنانين وستبقى دائما في ذاكرتنا." ()
بعدها كان توفيق الحكيم أول من دفع مبلغ خمسون جنيها _ والمعروف عن الحكيم أنه كان شديد البخل_ مساهمة في تكاليف إقامة تمثال لعبد الناصر عرفانا بالجميل..ورمزا يشرف على الأجيال القادمة. وهكذا كَذِّبْ توفيق الحكيم كل ما قال به توفيق الحكيم. تناسي توفيق الحكيم ما قاله: في عام 1965 أنه كان يخلوا إلي نفسه ويحلل في هدوء كل ما يقدم عليه عبد الناصر سواء من ناحية الموضوع أو ما يتعلق بالمنهج، فيجد صواب قرار عبد الناصر وصحة منهجه، وأنه لو كان في موقع عبد الناصر لما فعل غير ما فعله عبد الناصر.
ومتى كان المخمور يتمتع بكل هذا الهدوء والصفاء الذي يمكنه من اختيار الفرضية محل البحث، والمنهج المناسب لدراستها؟
لم يعد عبد الناصر ذلك البطل الذي تنبأ به الحكيم ليعيد الروح للأمة وينتشلها من رقادها ويصنع المعجزات التي تضاهي معجزة بناء الأهرامات، فأصبح صورته الجديدة في كراسة عودة الوعي "شخصية انفعالية غير سياسية، محركها الوحيد الانفعال، ورد الفعل، والتهويش، وأوقع البلاد في كوارث ومصائب، بدأت بتأميم القناة وحرب السويس وانتهت بهزيمة 1967…الخ.
انهالت الردود والتعليقات من داخل مصر والعالم العربي وكانت في أغلبها تهاجم توفيق الحكيم. لكن أهم الردود على كراسة توفيق الحكيم جاءت في كتاب لمحمد عودة بعنوان:  الوعي المفقود، يحلل فيه شخصية توفيق الحكيم وموقفه من القضايا الاجتماعية والسياسية واتخاذه دائما موقف لا يطاوله فيه أحد، وأنه لو أراد أن ينتقد أو يوجه لأمكنه ذلك، فجميع الأبواب كانت مفتوحة أمامه، لكنه لم يفعل وآثر السلامة الذاتية وهذا يتفق مع طبيعته الشخصية والأدبية وهي مركبات تبعده عن فهم معني الثورة.
"...فالبطل الثوري غريب تماما في كل أدبه، وأبطاله جميعا تعادليون أو تلفيقيين يوازنون ويلاءمون أو هم مجرد متفرجين أو هاربين يلوذون بمخبأ أو يرون كل شيء خفية..لا أحد في أبطاله يواجه القضايا حتى النهاية، ولا أحد منهم يفكر أو يثق في قدرته علي صنع أو تغيير الحياة. والدراما المجيدة التي عايشها خلال عشرين عاما وبطلها التاريخي، يقعان تماما خارج قدرته علي الفهم والإدراك.
يلخص د.غالي شكري موقف عدد من الرموز المشتغلين بالعمل الفكري والسياسي في مصر من التجربة الناصرية، التي كانت أغلبيتهم جزءا من التجربة. فكتب يشير إلي انتهازية توفيق الحكيم السياسية:" من مفارقات كتيب "عودة الوعي" لتوفيق الحكيم أنه كان يحق لصاحبه أن يفخر بأنه على العكس. كان واعيا إلي أقصي الحدود فهو الذي كتب السلطان الحائر بين السيف والقانون عام 1959، وهو أيضا الذي كتب بنك القلق عام 1966 وفي كلا العملين وقف الحكيم إلي جانب الديمقراطية وضد القهر..وكان أسلوبه الرمزي مباشرا في مخاطبة السلطان وأجهزته.
كذلك كان توفيق الحكيم هو الذي كتب بخط يده في فبراير 1972 بيان المثقفين المؤيدين لحركة الطلاب. ومنذ صدور ( عودة الوعي) وبداية تأييده للنظام الجديد بدءا بدعم مبادرة زيارة القدس المحتلة وانتهاء بالدعوة إلي حياد مصر. وهي خاتمة مثيرة لشيخ رائد تجاوز الثمانين ولكنها ليست خاتمة الثقافة المصرية.
ثم يشير غالي شكري إلي مواقف عدد من الرموز الأدبية:" فإذا كان أكبر العقول الليبرالية كلويس عوض لم يعترض بعد على أخطر إجراء اتخذه النظام ضد حرية التعبير. وإذا كان أكبر الأدباء كنجيب محفوظ قد مارس حريته في تأييد الصلح مع إسرائيل ولم يمارسها بعد في الدفاع عن زملائه..وهو الرجل الذي استمتع أكثر من غيره بالديمقراطية الناصرية فكتب أكثر الأعمال الروائية نقدا لأجهزة القهر..فان هذا كله لا ينفي أن الثقافة الحرة داخل مصر لم تفقد صوت الضمير والشرف والكبرياء.
أما موقف د. فؤاد زكريا أستاذ الفلسفة ورئيس مجلة الفكر المعاصر في تقييمه للتجربة الناصرية بأنها تجربة فاشلة لأنها:"…لم تقضى على الألقاب الموروثة لمرحلة ما قبل 1952" الباشا، البيك، صاحب المعالي..الخ...وأعتبر استقبال الشعب المصري لريتشارد نيكسون في القاهرة 1974، بأنه استفتاء شعبيا على رفض الشعب المصري للاشتراكية والثورة الناصرية عامة.
إلا أن أقسى التهم تلفيقا بغرض تلويث شرف وسمعة جمال عبد الناصر، فقد وردت في كتاب ( من وراء الأسوار ) للصحفي الوفدي _سابقا_ جلال الدين الحمامصي الذي ادعي أن ناصر اختلس لنفسه من أموال الدولة مبلغ 15 مليون دولار حولها لحسابه في بنوك في الخارج. لقد أثارت هذه التهمة الموجهة إلى الذمة المالية لعبد الناصر سخطا شعبيا داخل مصر، وسخطا أكثر في العالم العربي.
"ردا على هذه التهمة فان نظام السادات تحت ضغط شعبي رهيب لجماهير تريد أن تعرف الحقيقة، شكل لجنة تحقيق، وأظهر تقرير اللجنة، بأن الملك سعود قد تبرع للمجهود الحربي عقب الهزيمة العسكرية 1967 بمبلغ 5 مليون دولار، ثم رصدها في حساب التبرعات التي يشرف عليها رئيس الجمهورية، وانتقل هذا المبلغ إلى أشراف السادات. أما القرض الذي قدمته السعودية وقيمته 10 مليون دولار فتم تحصيله بمعرفة وزارتي الاقتصاد والتجارة الخارجية والخزانة والبنك المركزي المصري.
 حول الحملة الشرسة وما وظف لها من وسائل ودعم للتشهير بجمال عبد الناصر، وتحطيم الرمز في وجدان وعقل أمة. فقد تصدي لها من الكتاب من ذوي الشهرة والسمعة الطيبة فكان أحمد بهاء الدين واحدا من هؤلاء فكتب:" أن الحملة الشرسة ضد ثورة يوليو وضد جمال عبد الناصر كانت قد وصلت في مصر إلي أقصاها. وكان هذا يلقي اشمئزازا شديدا من الرأي العام والصحافة في البلاد العربية بوجه عام. وكان الاعتقاد الشائع _وهو في تقديري صحيح تماما_ أن السادات هو مخطط وموجه هذه الحملة. وأنه يسخر صفحات الإعلام المصري لحزب الانتقام من الثورة ومن جمال عبد الناصر.
وكان كلما اشتدت الحملة وبدأت تحدث رد فعل مضاد، انتهز مناسبة في إحدى خطبه ليعلن أنه أمين على أسم جمال عبد الناصر وسمعته وعائلته ولكن بطريقة لا يخفي على أحد أنها تمثيلية …أمر السادات بتشكيل لجنة لبحث الموضوع تحت ضغط الرأي العام، وحين تم التقرير الذي أكد براءة عبد الناصر من هذا الاتهام السخيف الرخيص، كان السادات يلقي خطابا في البرلمان، فأعلن أن التقرير يبرئ جمال عبد الناصر وأنه يودع التقرير أمانة مجلس الشعب ولم ينشر التقرير على الناس. فتلك كانت طريقته في بقاء الشبهة تحوم في الفضاء!
وفي زيارة السادات للكويت…انتهز نواب البرلمان الكويتي من كل الاتجاهات الفرصة، ليرد كل منهم في تعليقه على أن نجاح الكويت في المفاوضات وفي امتلاك بترولها كله، أنه لابد في هذه المناسبة من ذكر جمال عبد الناصر الذي كان أول من قال "بترول العرب للعرب" في وقت كان يبدو فيه هذا الكلام حديث خرافة…وكان جزء من هذه الخطابات مقصود به أن يسمع عنه السادات.
وفي الليل أقيمت للسادات مأدبة عشاء رسمية…وحدث حادث غريب مفاجئ. إذ تقدم إلي السادات أحد كبار القوم من الكويتيين وقال له على مسمع من الموجودين المحيطين يا سيادة الرئيس، نحن لا نقبل أن يقال في مصر أن جمال عبد الناصر قد اختلس عشرة ملايين جنيه وأنا شخصيا، ويشهد كل الأخوان الواقفين، كنت ضد جمال عبد الناصر، وكنت ضد حرب اليمن بالذات. ولكن أن يقال أن جمال عبد الناصر الذي كانت خزائن مصر كلها في يديه، وخزائن العرب إذا شاء، قد اختلس عشرة ملايين دولار فهذا عار على الأمة العربية كلها. التي كان جمال عبد الناصر _شئنا أم أبينا_ رمزا لها في العالم كله. وأنني اطلب أن تقول لنا أي مبلغ ترون أنه في ذمة جمال عبد الناصر للخزانة المصرية، وسوف ندعو الشعب الكويتي للتبرع به وتسديده عنه. وسيجمع الشعب الكويتي أي مبلغ في أقل من 24 ساعة.
حول اللجنة التي تشكلت للتحقيق في الاتهامات الملفقة:"…كان رئيس اللجنة الذي اختير لفحص موضوع _ الاختلاس _ وتقديم التقرير هو الاقتصادي الشهير  د. علي الجريتلي…وقد قابلته وسألته عن التقرير قال لي: د. الجريتلي أنني لم أسمح لأحد في اللجنة أن يشاركني في العمل وقد قمت بنفسي بمتابعة كل الموضوع…وقد كنت واثقا من النتيجة فقد كان عبد الناصر أكثر كبرياء من أن يقبل بأي إفساد له...بعد موت عبد الناصر بسنة تقريبا كنت في مقابلة مع رئيس البنوك السويسرية وإذا به يقول لي أن المخابرات الأميركية والمخابرات الإسرائيلية قد ( هلكتنا ) شهورا طويلة. وسألته لماذا؟ فقال لي الرجل السويسري: لقد حاولوا بأي طريقة العثور على أي حساب باسم جمال عبد الناصر فلم يجدوا." وبتحليل شهادة أحمد بهاء الدين تتكشف وحدة الخواطر والهدف بين السادات الذي حاول أن ينجح فيما فشلت فيه المخابرات الأميركية والإسرائيلية في تلويث سمعة جمال عبد الناصر. ويستعرض هيكل ثروة عبد الناصر المالية حتى يوم وفاته:" أن حجم ثروة عبد الناصر في 9/28 /1970 لم يتعدى مبلغ 1500 جنيها قيمة بوليصة تأمين على حياته، عقدها قبل ذهابه إلى حرب فلسطين 1948، وأن رصيده في البنك كان مبلغ 2400 جنيه، في الوقت الذي كان عبد الناصر مدينا بمبلغ 26 ألف جنيه أقترضها باستبدال معاشه لبناء بيتين لابنتيه عند زواجهما.

 

 
 



 صفحة للطباعة صفحة للطباعة

 أرسل هذا الخبر لصديق أرسل هذا الخبر لصديق

 
 

 
 

· البحث في اخبار وثائق
· البحث في اخبار جميع الصفحات


أكثر خبر قراءة في وثائق:
شيمون بيريز مسح له الحذاء وجولدامائير كرمته جمعة الشوان (حكاية مصري قهرالموساد)